تونس | حطمت تونس الرقم القياسي بين الدول العربية من حيث عدد الرؤساء والوزراء المتوالين عليها في غضون عام؛ فمنذ انطلاق الثورة عرفت 3 رؤساء جمهورية (المخلوع زين العابدين بن علي، فؤاد المبزع والمنصف المرزوقي)، وثلاثة رؤساء حكومة (محمد الغنوشي والباجي قائد السبسي وحمادي الجبالي)، وما يقارب المئة وزير. هذا إلى جانب طفرة حزبية تجسّدت في بروز أكثر من مئة حزب سياسي.
لقد انطلقت التغييرات على الساحة السياسية منذ اندلاع الثورة، وبلغت ذروتها مع هروب الرئيس المخلوع. وبعدما كانت التعيينات الوزارية تجري في أروقة القصر، باتت تُفرض من خلال إرادة الجماهير. وألّف محمد الغنوشي أول حكومة بعد الثورة، التي عرفت تغييرات على تركيبتها بإدماج وزراء من المعارضة ومن المجتمع المدني، كأحمد نجيب الشابي وأحمد ابراهيم والطيب البكوش (رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان) إضافة الى عميد المحامين الأسبق القروي الشابي.

ووضعت هذه الحكومة برنامجاً للانتقال الديموقراطي على مدى 6 أشهر لإحداث إصلاحات دستورية وقانونية، وتنظيم انتخابات رئاسية، لكن هذا المسار لم ينل رضى العديد من القوى اليسارية والإسلامية والنقابية، واتحدت كلها تحت لواء الدعوة إلى انتخاب مجلس وطني تأسيسي يعيد كتابة الدستور، ويؤسس لنظام جديد، وانتهى مآل هذه الحكومة إلى السقوط أمام المعتصمين في ساحة الحكومة بالقصبة، وبقية مدن الجمهورية، وتحقيق مطالبهم المتمثلة في انتخاب مجلس وطني تأسيسي، وتعليق العمل بالدستور، وحل المجالس النيابية والاستشارية.
تولى بعدها الباجي قائد السبسي رئاسة الوزراء في مطلع آذار، وأحدث قطيعة مع سابقيه، بحيث أطلّ على الرأي العام بخطاب ارتجالي، ألمّ بالخبرة والحنكة السياسيتين، كما استطاع بأسلوبه البورقيبي أن يهدّئ من غضب الشارع، وطرح على الرأي العام خارطة طريق للانتقال الديموقراطي، حظيت بقبول أغلب الجهات السياسية والمدنية.
وتمثلت خارطة الطريق هذه في تكوين هيئة لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي وتوافر المناخ السياسي والقانوني الملائم لانتخابات مجلس وطني تأسيسي في 24 تموز كتاريخ أول، لكن الهيئة المستقلة للانتخابات رأت استحالة تأمين ذلك التاريخ، فجرى تأجيلها إلى 23 تشرين الأول.
ومن خلال هذه الانتخابات ظهرت على الساحة السياسية تركيبة فسيفسائية، بعدما منحت وزارة الداخلية تأشيرة العمل القانوني لما يفوق المئة حزب، إضافة إلى الثمانية أحزاب الموجودة سلفاً. مع أن هذه الأحزاب المئة لم يكن لها تأثير كبير، وظلت الساحة السياسية منقسمة بين أحزاب اليمين، ممثلة بحركة «النهضة» الإسلامية، وأحزاب أقصى اليسار كحزب «العمال» الشيوعي، وأحزاب الوسط كالحزب الديموقراطي التقدّمي والتكتل الديموقراطي وحركة التجديد والمؤتمر من أجل الجمهورية. وتباينت مواقف هذه الأحزاب طيلة الفترة الانتقالية؛ ففي الوقت الذي اصطفت فيه قوى أقصى اليسار وراء «النهضة» في معسكر مناهض للحكومة المؤقتة، متهمةً كل من يدور في فلك الحكومة بالالتفاف على الثورة، اختار تيار الوسط، وأساساً الحزب الديموقراطي التقدمي، وحركة التجديد، مساندة حكومة السبسي.
وأهم محطة حزبية في تونس منذ الثورة كانت حل التجمع الدستوري الديموقراطي، الحزب الحاكم سابقاً، بقرار قضائي. وانقسم هذا الحزب إلى عدّة أحزاب، أبرزها حزب «المبادرة»، الذي يرأسه وزير الخارجية في عهد بن علي كمال مرجان، وقد حصل على 5 مقاعد في المجلس الوطني التأسيسي.
في المقابل جرى الاعتراف بحركة «النهضة»، التي كانت محظورة طيلة عهدي بورقيبة وبن علي، اضافة الى باقي التيارات اليسارية والديموقراطية. وبعد مرور شهور قليلة، بانت ملامح المشهد الحزبي، الذي انقسم إلى تجاذب وصراع بين علمانيين وإسلاميين، أو تقدّميين ومحافظين. مثلت حركة «النهضة» التيار الاسلامي «الإخواني»، فيما مثل الحزب الديموقراطي التقدّمي (برئاسة أحمد نجيب الشابي) وحركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقاً) التيار العلماني.
وأحدثت انتخابات المجلس التأسيسي مفاجآت لم يتوقعها التونسيون، أولها صعود حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي يتزعمه المنصف المرزوقي، وتيار مستقل يسمى «العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية»، الذي أسسه صاحب قناة المستقلة في لندن الهاشمي الحامدي، مقابل سقوط مدوّ للحزب الديموقراطي التقدمي.
وأدّت الانتخابات إلى صعود كبير لـ«النهضة» بفارق كبير عن بقية الأحزاب، وأقامت تحالفاً حكومياً مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وحزب التكتل من أجل العمل والحريات، وتقاسمت معهما الرئاسات الثلاث. تتجه الحكومة الجديدة بعد عام على الثورة لنيل ثقة المجلس التأسيسي. وهكذا طرد الشعب تونس دكتاتوراً ونصب مكانه من قضى أغلب فترة حكم بن علي إما في السجن أو المنفى، ليضعه أمام امتحان حكم تونس ما بعد الثورة.