الرباط | عاد الحديث بقوة عن السلفيين في المغرب بعد الانتخابات الأخيرة، إذ طُرحت تساؤلات كبيرة عن دورهم في ترجيح كفة الإسلاميين، خصوصاً في عدد من المعاقل الانتخابية التي كان الإسلاميون يفشلون فيها عادة. ومع ربيع الثورات العربية، عاد السلفيون المغاربة إلى احتلال الشارع وانضموا إلى احتجاجات حركة «20 فبراير»، مطالبين بالإفراج عن معتقليهم ووقف حملات التضييق عليهم. غير أن السلفيين المغاربة لا يؤلفون كتلة متجانسة، وبالتالي يصعب تحديد موقف سياسي واحد يربط بينهم، بما أنهم ينقسمون بين سلفيين تكفيريين وسلفيين جهاديين وسلفيين أفغان
في البدايات

تعود بداية ظهور التنظيمات السلفية في المغرب، وفق ما تشير إليه معظم الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع، إلى عام 1971، حين ظهرت «جمعية القرآن الكريم» في مدينة مراكش، ثم تلتها «جمعية الدعوة إلى القرآن والسنّة» سنة 1976، وجمعيات أخرى خرجت إلى النور على يد الداعية محمد المغراوي المموَّل من السعودية. لكنّ الفكر السلفي كان حاضراً بقوة قبل ذلك، وتحديداً في عهد عدد من الملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب، وصولاً إلى الملك الحسن الأول، وهي فترة تزامنت مع الحقبة التي عاش فيها محمد عبد الوهاب، أبو الفكر الوهّابي. كذلك ارتبط انتشارهم بالتاريخ القومي للمغرب، خصوصاً في فترات الكفاح ضد المستعمر، من خلال مقولات ألهمت وأطّرت حركات المقاومة.
كان على الفكر السلفي أن يحاول إيجاد موطئ قدم له في بيئة يطبعها التعدُّد في الممارسات التعبدية. وقد سعت الدعوة السلفية في المغرب إلى خلق تعليم ديني يخدم منهجها العقائدي ومذهبها الاجتماعي. ومثّل هذا التعليم الديني منطلقاً لبروز أسماء عدد من منظّري الفكر السلفي في المغرب، ممن تلقّوا أساسيات المذهب في دول المشرق العربي. وقد طُرحت أمام السلفية إشكالية التفاعل مع التغيّرات التي عرفها المجتمع المغربي، فنحا بعضها منحى أكثر راديكالية ليحمل نظرة عدائية تجاه المجتمع. ويرى الباحث في تاريخ الحركات السلفية في المغرب، عبد الحكيم أبو اللوز، أن ما يُعرف بالتعليم الأصيل في المغرب أسهم في انتشار الفكر السلفي، إذ انطبعت المادة التعليمية بنفحة سلفية بارزة، كما أنّ معظم منتسبي مدارسه كانوا من متخرّجي المدارس القرآنية والمعاهد الدينية السلفية. ويشير أبو اللوز إلى أن الأتباع كانوا في معظمهم من فئة الشباب ومن المحرومين اقتصادياً والقلقين نفسياً. هو حرمان، بحسب الباحث نفسه، تواجهه الحركات السلفية في المغرب «بالوعظ الديني، وتخفي الأسباب الحقيقية التي رجّحت الإقبال عليها». رأي يقوم على أن الحركات السلفية «تحارب الحرمان بالمعاني الجمعية التي تتشكل من خلال العيش داخلها، إذ ليس من مصلحة الحركة أن يعي أتباعها طبيعة الحرمان الذي كان في مصدر انتمائهم إليها، لأنها ستضطر آنذاك إلى وضع حلول عقلانية ودنيوية للتغلب على الاستغلال، ما سيقضي عليها كحركة دينية»، بحسب تعبير أبو اللوز.
ومع المتغيّرات التي عرفتها السعودية بعد حرب الخليج، ودعوة علماء لتكفير الدولة السعودية والجهاد ضد الأميركيين الذين أقاموا قواعد عسكرية لهم في الخليج، ظهرت «السلفية الجهادية»، وأصبح لها امتداد في المغرب من خلال شيوخ درسوا في السعودية، وتتلمذوا على أيدي دعاة التكفير، وبدأ فكرهم بالتغلغل وسط الشباب، وكانت أفكار أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهما تلقى الإعجاب لديهم، خاصة مع ما كان يجري في حينها في أفغانستان، حيث التحق العشرات من المغاربة وأسرهم للقتال هناك أيضاً.
طُرح الإشكال بعد غزو أفغانستان، فعادت أعداد منهم إلى المغرب وبدأوا بتكوين خلايا إرهابية يقودها مقاتلون من «الجماعة المغربية المقاتلة» التي كانت وراء أحداث 16 أيار. بل إن عدداً من الشيوخ أصبحوا منظّرين للجهاد في مختلف المدن المغربية، وانتشرت إيديولوجيتهم في كل الأحياء عن طريق الأقراص والكتب الثراتية الداعية إلى التطرف. وكانت عقيدة السلفية الجهادية آخدة في التوسع قبل أن يُفكّك عدد من الخلايا التي تكوّنت في مختلف ربوع المملكة، وهي العملية التي لا تزال متواصلة حتى اليوم.

ما قبل 2003 وما بعدها

في المغرب، احتدم الجدل احتداماً كبيراً بشأن الحركة السلفية بعد هجمات 16 أيار 2003، التي حمّلت فيها الدولة المغربية السلفيين المسؤولية الكاملة، وشنّت حملة اعتقالات واسعة بحق عدد من السلفيين، وأغلقت دور القرآن وزُجّ بعدد من شيوخ السلفية في السجن، كعمر الحدوشي ومحمد الفيزازي، وهو ما اعتبره السلفيون تجنّياً وملفّاً فبركته الاستخبارات المغربية. وقال عدد منهم إنهم تعرضوا لشتى صنوف التعذيب النفسي والجسدي.
عام 2003، كانت نهاية عهد تطبيع الدولة المغربية مع السلفية التي استفادت كثيراً من التناقض الذي كان يطبع تعامل الدولة المغربية مع الحقل الديني؛ ففيما كان محظوراً على التنظيمات الإسلامية ممارسة العمل السياسي، سُمح للسلفيين وتيارات أخرى بالدعوة من داخل مجتمع يدين أصلاً بالإسلام، ما سمح للجمعيات السلفية بالعمل بكامل الحرية تحت شعار حفظ القرآن وتعليم العلوم الشرعية ومحو الأمية. ورغم مسارعة الدولة إلى إغلاق عدد من المساجد التي لها ارتباطات سلفية، وانتهاج سياسة تأميم المساجد، فإن بعض الجوامع ظلّت تحت السيطرة السلفية، مستفيدةً من الشبكة الدعائية التي تنسجها وتجعلها في غنى عن معونات الدولة.
ورغم أن الدولة المغربية قد أرسلت بعض الإشارات الإيجابية إلى إمكان حصول انفراج قريب في ملف معتقلي السلفية، خصوصاً مع هبوب رياح «الربيع العربي» وضغط حركة «20 فبراير» التي وجد فيها السلفيون ملاذاً آمناً لتصريف مطالبهم بالإفراج عن أقاربهم وأصدقائهم المعتقلين، سرعان ما عادت لتشدّد من قبضتها، خصوصاً مع التمرُّدات المتتالية التي خاضها سجناء السلفية في عدد من المعتقلات المغربية. وبحسب سلفيين مغاربة تحدثوا إلى «الأخبار»، فإن المعتقلين السلفيين ليسوا على درجة كبيرة من الوفاق، وهم منقسمون بين تيار تكفيري وآخر يمثّله «المغاربة الأفغان» وتيار من السلفيين الجهاديين الذين يرفضون القيام بمراجعات لأفكارهم.

بين «العدالة والتنمية» و«العدل والإحسان»

قد يكون الاعتقاد السائد هو أن الحركات السلفية على وجه العموم تزدري السياسة، لكن هذا لا يعني أن الدور السياسي الذي تقوم به التيارات السلفية في المغرب معدوم نهائياً؛ فرغم أن السياسة غير موجودة في فكر السلفيين المغاربة، أقلّه على مستوى الخطاب، فهي حاضرة بقوة على مستوى الممارسة اليومية. الصحافي المغربي أوسي موح لحسن، المتخصِّص في شؤون الحركات الإسلامية، تحدّث إلى «الأخبار» عن بعض أوجه الظهور السياسي للسلفيين المغاربة. ويقول لحسن إن «لديهم وزناً في مختلف الشرائح الاجتماعية. فالسلفية على الطريقة المغراوية مثلاً (نسبة إلى شيخها محمد بن عبد الرحمن المغراوي) خرجت في مسيرات لدعم الدستور المعدَّل، بينما ساند بعضهم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة، من دون أن يفصحوا عن ذلك، بينما اختارت السلفية الجهادية وعائلات أفرادها الانضمام إلى حركة 20 فبراير الاحتجاجية بعد فتوى تلقّوها في هذا الشأن ممن يعتبرونهم علماء في المشرق». أما عن مستقبل الحركة السلفية، فيرى أوسي موح لحسن أنّ إمكان تطور هذه التنظيمات وإعادة تكوّنها بصيغ أخرى يكون لها تأثير سياسي، خصوصاً مع صعود السلفيين في مصر، يبقى وارداً مع خروج العديد منهم من سجون النظام، كالشيخ الفيزازي على سبيل المثال. لكنه سرعان ما يستدرك بأنه «ليس بالضرورة أن يكون انخراطهم سياسياً مرتبطاً بدخولهم الانتخابات، ولكن قد يختارون التموضع في المعارضة مثلاً، في حين ليس من المستبعد أن تختار بعض فصائلهم النائمة المضي قدماً في العمل الجهادي، وخاصة أن أجندتها مرتبطة بالتنظيم السلفي الجهادي العالمي، أو بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، باستثناء من قد يختارون العمل السياسي السلمي أو الدعوي بعد القيام بمراجعات فكرية»، على حدّ تعبيره.
إنّ بعض السلفيين المغاربة شرع بالفعل في مراجعات جذرية لأفكاره واقتناعاته، بل ذهب العديد منهم إلى حدّ الاعتراف بـ«إمارة المؤمنين» التي يمثّلها الملك محمد السادس. وفي مقدمة هؤلاء الشيخ محمد الفيزازي الذي خرج من السجن مع عدد من المعتقلين الإسلاميين كبادرة حسن نية اتخذتها الدولة المغربية بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية أخيراً. وبدا مفاجئاً للكثيرين كيف تغيّرت لهجة الشيخ محمد الفيزازي الذي أعرب عن استعداده لدخول غمار السياسة، حتى إنه أعرب عن رغبة في تأسيس حزب سياسي، ودعا المواطنين إلى المشاركة الفعّالة في الانتخابات، فيما أصدر الشيخ أبو حفص وثيقةً من سجنه يعلن فيها اعترافه بالنظام الملكي، ويرفض ممارسة العنف وينبذ فيها التكفير. غير أنّ هذه المراجعات تبقى مبادرات فردية بحتة لم تمتد لتصل إلى الأتباع بعد.



عداء الصوفيّة


يمكن القول إنّ علاقة السلفيين بحركات الإسلام السياسي في المغرب ظلّت ملتبسة، على غرار ما هو حاصل في علاقة السلفيين بـ«الإخوان المسلمين» في مصر. فإذا كان عدد من أتباع السلفية قد تعاطفوا مع حزب «العدالة والتنمية» الذي وصل إلى الحكم، وأسهموا إسهاماً كبيراً في التصويت له، فإن العلاقة مع جماعة «العدل والإحسان» الإسلامية المحظورة لطالما طبعها العداء المتبادل. والسبب في ذلك يعود إلى أن السلفيين يرون أن «العدل والإحسان» هي جماعة تنتهج «سلوك البدعة المحرّمة شرعاً». وفي السياق، يتذكّر الكثيرون عام 2006 الذي أعلنه شيخ الجماعة عبد السلام ياسين، «سنة الخلافة والوصول إلى الحكم»، بعد رؤيته الشهيرة، وهو ما تهكّم عليه السلفيّون ورأوا في «نبوءته» نوبة جنون وتخريفاً انتابا الرجل الأول للجماعة المعارضة ذات التوجه الصوفي. في المقابل، تبدو علاقة السلفيين بحزب «العدالة والتنمية» أكثر دفئاً، وهو ما ظهر بجلاء في الانتخابات الأخيرة، حيث علّق السلفيون آمالاً كبيرة على الحزب الإسلامي لمساعدتهم على طيّ ملف معتقليهم المسجونين في إطار «قانون الإرهاب».