أُبيّ حسن *قبل الحديث عن وعورة العمل الحقوقي في سوريا، تجدر الإشارة إلى أن منظمات وجمعيات حقوق الإنسان السوريّة، وهي المعنيّة بهذا المقال، لم يسبق لها أن أدانت أي جريمة ارتُكبت في سوريا ضد النساء باسم «الشرف»، والمعروف أن سوريا مصنّفة خامس دولة على مستوى العالم في هذا النوع من الجرائم، ورابع دولة على مستوى الوطن العربي. كما أنها صمتت صمت القبور طوال السجال الذي دار، في الأشهر القليلة الفائتة، في الداخل السوري حول مسودة قانون الأحوال الشخصية السيء الذكر، ومعروف أنه قانون مليء بانتهاكات فاضحة لأبسط حقوق الإنسان عموماً، والمرأة خصوصاً!.
ما سبق ذكره، وإن كان يصعب علينا تجاهله والمرور عليه مرور الكرام، لا يعفينا من القول إن التضييق يزداد على الناشطين في المجال الحقوقي يوماً إثر يوم. فمنذ فترة قريبة تناقلت وسائل الإعلام الإلكتروني في سوريا، خبراً مفاده: مقاضاة «المنظمة الوطنية السوريّة لحقوق الإنسان» وأعضائها أمام القضاء، من خلال دعوى رفعتها وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي كانت إحدى ذرائعها أن المنظّمة غير مرخصة!. والأكثر فكاهةً من ذلك أن «الوزارة المذكورة لم ترخّص للمنظمة لأن الأخيرة غير مرخّصة»؟! مضيفةً سبباً آخر لا ندري مدى «وجاهته»، ألا وهو أن نقابة المحامين بمقدورها القيام بعمل تلك المنظمات، متجاهلةً الوزارة «العتيدة»، إن عمل نقابة المحامين مأجور, فيما عمل تلك المنظمات مجّاني وطوعي!.
ولم يطُل الأمر كثيراً حتى اعتُقل المحامي مهند الحسني، رئيس المنظمة السوريّة لحقوق الإنسان، من جانب بعض السلطات الأمنية، وأُودع سجن عدرا إلى حين محاكمته، بتهمتَي «وهن نفسية الأمة»، و«نشر أخبار كاذبة». طبعاً، لم يتسنّ لنا حتى الآن معرفة الأسباب الحقيقية التي أفضت إلى اعتقال السيد الحسني. فالمعروف أن المؤسسات الرسمية السوريّة تفتقر، عموماً، إلى ناطق رسمي يوضح للجمهور المعني القرارات التي تُتخذ بطريقة قد تبدو لمتلقّيها ارتجالية واعتباطية في بعض الأحيان، ما يترك الباب واسعاً للشائعات والتأويلات والظنون والتخمينات!.
بالعودة إلى العمل الحقوقي السوري، نجد أن وعورته لها أسبابها الموضوعية، والذاتية/ الأخلاقيّة. ففي الشق الموضوعي نرى أنه في ظل غياب قانون ناظم لعمل تلك المنظمات والجمعيات في البلاد، من شأنه أن يجعلها عرضة لأي مساءلة قانونية من جانب السلطات بتهم قد تكون ملفّقة أو باطلة، وفي أي وقت كان. ومن البديهي أن إحدى نتائج غياب ذلك القانون أن بات عمل تلك المنظمات يجري ضمن سياسة «غض النظر»، وهي سياسة تخضع لمزاجية واعتبارات أصحاب القرار في الجهاز الأمني؛ ومثل تلك السياسة، لا تغني عن وجود قانون ينظّم العلاقة في العمل الحقوقي، يُرخّص بموجبه لتلك المنظمات والجمعيات؛ ومن نافل القول إن قانوناً كهذا ينطوي على مكسب للطرفين: الأمني والحقوقي؛ وبالتالي، هو مكسب للحراك السوري الوطني مهما كانت اتجاهاته وميوله (موالاة، معارضة).
في السياق ذاته، كان من نتائج عدم قوننة النشاط الحقوقي، أن بقي جمهور تلك المنظمات محدوداً جداً، إذ اقتصر على بعض المتابعين للشأن العام والسجناء (الرأي، بالدرجة الأولى) السابقين وذويهم. وبهذا المعنى كان من الطبيعي أن تتلافى وسائل الإعلام السوري الأكثر جماهيريةً (من رسميّة ونصف رسميّة) نقل غالبية البيانات الصادرة عن تلك المنظمات، تحاشياً لأية مساءلة من جانب السلطات الكائنة؛ ما يعني أنه جرت محاصرة المنظمات الحقوقية إعلاميّاً كذلك، وهكذا بقيت هذه المنظمات عاجزة عن إيصال رسالتها إلى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور المعني بها، فبدت كأنها توجّه رسائلها (من بيانات وتقارير.. إلخ) إلى منظمات حقوقية تقع خارج سوريا، بغية نيل اعترافها، وهنا لا يوجد استثناء لأي منظمة أو جمعية حقوقية سوريّة.
كان من نتائج غياب القوننة، والمحاصرة الإعلاميّة، أن بقي العمل الحقوقي في سوريا يراوح مكانه، فلم يستطع الارتقاء بخطابه لا شكلاً ولا مضموناً، وهذا ما نجده في بيانات تلك المنظمات والجمعيات، وهي بيانات اقتصرت على شجب وإدانة اعتقال أي مواطن سوري لأسباب لها علاقة (كما يبدو للوهلة الأولى) بحرية التعبير عن الرأي أو نشاط سياسي مُعارض، من هنا لم يكن بمقدور الناشطين رؤية ظواهر سلبيّة عدة في الشارع السوري، وهي تدخل في صلب عملهم، كجرائم الشرف وقانون الأحوال الشخصية (وهو ما كنّا قد بدأنا به)، وحتى ظاهرة التلوث البيئي، أو التدهور في المنحيين التعليمي والصحي، وصولاً إلى نسبة البطالة المرتفعة في أوساط الشباب السوري في البلاد.. إلخ.
اقتصار نشاط المنظمات والجمعيات الآنفة الذكر، على لون واحد من النشاط، ليس مردّه فقط التضييق الذي يتعرّض له الناشطون، بل مردّه أساساً إلى الخلفيّات السياسية والإيديولوجيّة والفكريّة لأولئك الناشطين، فهي إما من المُعارضة أو قريبة من أوساطها وبيئاتها الفكريّة. وهذا كله من شأنه أن يطعن بصدقيّة الكثيرين منهم، وأن يضعف موقفهم أمام السلطات التي يقفون في مواجهة تعسّفها. وهذا ما يفسّر لنا كذلك، في بعض جوانبه، الدفاع

تبقى المنظمات والجمعيات عرضة لأي مساءلة قانونية في ظل غياب قانون ناظم لعملها
المستميت لتلك الجمعيّات والمنظمات عن أي معتقل من خلفيّة جهاديّة تكفيريّة، من دون أن تفكّر في إدانة البنيّة الفكريّة الإرهابيّة لذلك المعتقل، فمثلاً قليلة هي المنظمات والجمعيّات الحقوقية السوريّة التي أدانت العملية الإرهابيّة التي جرت في منطقة القزاز، في دمشق، منذ قرابة عام!.
أما بخصوص الأسباب الذاتية/ الأخلاقيّة، فهي متعلقة، عمليّاً بعلاقة المنظمات والجمعيات الحقوقية السوريّة بعضها ببعض، إذ هي غالباً، مع شديد الأسف، علاقة نفور (لا غيرة، وتنافس)، و«عداوة كار» تزدهر فيها النمائم والوشايات وحتى الدسائس، أكثر ما هي علاقة تعاون وانسجام (كما يحاولون إظهار أنفسهم أمام الآخرين) بما من شأنه المساهمة في المجتمع بغية النهوض به. وبمعزل عن أنني كنتُ مُعايشاً لذلك الوسط طوال سنوات، وأعرف الكثير عن تفاصيله التي لا تسرّ عدواً، ولا تغبط صديقاً، فقد أكد لي الصديق مهند الحسني، من خلال مكالمة هاتفيّة، قبيل اعتقاله بيومين (كان لا يزال في طور مراجعة الفرع الأمني المعني)، أن هناك، في الوسط الحقوقي السوري، من دسّ وحرّض الأجهزة الأمنيّة عليه. يا إلهي! أين السلطة وأمراضها من أمراض ذلك الوسط؟!.
والوعورة الذاتيّة/ الأخلاقيّة، ستتجلى في عمل هاتيك المنظمات عندما تحوي في صفوفها ما هبّ ودبّ، فأي طالب شهرة أو حظوة، وإن كان فاشلاً في حياته التعليميّة والشخصيّة، ولا يمتلك من المؤهلات الحقوقية والقانونية شيئاً، بمقدوره مصادقة صحافيّة أو سيدة ناشطة (لا على التعيين)، وهي بدورها تتكفّل تكريسه رئيساً لمنظمة أو رابطة حقوقية، ذلك من خلال أخذ بضعة تصريحات منه بين الفينة والأخرى! وهذا حقيقة بعض ما هو كائن راهناً في الوسط الحقوقي السوري!.
أكثر ما ظهرت المأساة الأخلاقية في هذا الجانب، عقب اعتقال رئيس المنظمة السوريّة لحقوق الإنسان، فبعض من كتب/ت لم يخفِ تشفّيه وسروره، في ما كتب، لاعتقال السيد الحسني، ولَعَمري هذا أبعد ما يكون عن العمل الحقوقي الإنساني الذي إحدى ركائزه نبل الأخلاق والتسامي فوق الخلافات الشخصيّة، كما نفترض.
الحديث عن وعورة العمل في الحقل الحقوقي السوري، مخيّب بقدر ما هو متعب، وقد لا ينتهي، وفيه من المعوقات الذاتية/ الأخلاقية، أكثر ما يواجه من تحديّات موضوعيّة (أمنيّة بالدرجة الأولى), وذلك كله لا يمنعنا من التعاطف مع تلك الجمعيات والمنظمات، والمطالبة بقوننة نشاطها، كمطالبتنا بالإفراج عن معتقلي أصحاب الرأي (بمعزل عن آرائهم ومواقفهم، إن كانت تروقنا أو لا)، من دون أن نغفل مطالبتنا بالإفراج عن الصديق مهند الحسني؛ فالرأي يواجَه بالرأي لا بالقمع والسجن.
* كاتب سوري