من غرائب المصادفات أن تفرغ السوق اللبنانية من لقاحات الأنفلونزا الموسمية هذا العام بالذات، عام أنفلونزا الخنازير. فهذه اللقاحات التي تحمي قليلاً من تفاقم الأنفلونزا التقليدية خلال فصل الشتاء، اكتسبت أهمية إضافية لكونها، في غياب لقاح أنفلونزا الخنازير، تحمي من مضاعفات الإصابة بالفيروسَين في وقت واحد، فهل من أسباب للنقص في اللقاحات؟
غادة دندش
قال العديد من المواطنين إنهم لم يستطيعوا العثور على لقاح الأنفلونزا الموسمية لهذا العام في الصيدليات، واشتكى بعض من عثروا على لقاحات باقية في صيدلية هنا أو هناك، من أنهم اضطروا إلى شرائه بمبلغ يفوق ثلاثة أضعاف ثمنه الحقيقي. فأين ذهبت اللقاحات التي كانت الصيدليات تبدأ بعرضها منذ بداية أيلول سنوياً؟ ولماذا تخلو أغلب الصيدليات من اللقاحين اللذين يكونان متوافرين عادةً في لبنان؟ هل يعود ذلك إلى شدة إقبال الناس عليهما، ما أدى بالتالي إلى نفاد الكمية التي كانت عادةً تُستورَد؟ أم أن مافيا الدواء اللبنانية وجدت فرصتها لجني أرباح غير مشروعة عبر سحب اللقاحات من السوق، واحتكار بيعها؟ أم أن الأمر مجرد “مبادرات فردية” لدى بعض الصيدليات برفع ثمن اللقاح لدى ملاحظتها الإقبال الشديد وسرعة نفاد المخزون؟ وإن كان الأمر كذلك، فمن يحمي مرضى السيدا والمفتقرين إلى مناعة جيدة مثل كبار السن والمرضى والأولاد والمصابين بأمراض مزمنة من مخاطر الأنفلونزا الموسمية، التي تقتل، حسب إحصاءات اللجان الصحيّة التابعة للأمم المتحدة سنوياً بين مليون شخص في العالم ومليونين؟.
إنّ من لا ينتمي إلى الأوساط الطبية والصيدلانية، لا يدرك مدى احترام “عهد الصمت” بين أبناء المهنتين. فلا بوح بما يمكن أن يضرّ بزميل طبيب أو صيدلاني، حتى على حساب الصحة العامة، لذا من الصعب الحصول على إجابات واضحة.
“اللقاح مفقود لكنه قد يتوافر آخر الشهر الجاري” كما يقول وكيل أحد اللقاحين، الذي أبلغ الصيدليات بذلك. وعبارة “اللقاح مفقود” تكاد تكون جواباً موحّداً بين الصيدليات التي طفنا بها: من الحمرا إلى الجمّيزة، مروراً بجلّ الديب والزلقا، وحتى في الكورة كان الجواب نفسه. وماذا عن “توافره” بسعر خمسين ألف ليرة في “بعض” الصيدليات؟ لم ترضَ أيّ صيدلية التعليق على هذه “المعلومة”. لكن، صيدلانية واحدة في وسط بيروت، أجابتنا، وكنا قد انتحلنا صفة زبون عادي. فحين قلنا لها “بدي اياه شو ما كان سعرو” نقصد اللقاح، ما كان منها إلا أن أجابت: “أنا ما بشتغل هالشغلة، في زملاء عم ييبعوه بخمسين ألف ليرة بدل 12500 ليرة، بس ما تسأليني مين، ما بعرف”.
هناك زملاء يبيعون اللقاح بخمسين ألف ليرة ولا تسألوني عن أسماء
اللافت أن وكيلَي اللقاحين لم يوفّرا اللقاح بالكميات المطلوبة، التي اعتادا توفيرها في السنوات الماضية، رغم خطورة الوضع هذه السنة. لكن السؤال الأهم: لماذا لم تأخذ وزارة الصحّة على عاتقها تأمين اللقاحين نظراً إلى خطورة الوضع هذا العام بوجود فيروس أنفلونزا الخنازير؟ مع أنّ الوزير أعلن أنه أصبح فيروساً مستوطناً؟ فبعض الدراسات لخطر أنفلونزا الخنازير تقول إن تناول لقاح الأنفلونزا الموسمية يخفّف من مضاعفات الإصابة بأنفلونزا الخنازير نظراً إلى عدم تمكين الفيروسَين من الاجتماع في جسد المصاب.
هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات من وزارة الصحّة، ونقابة الصيادلة ومجلسها التأديبي ومفتّشيها، الذين من واجبهم معرفة الصيادلة المخالفين للبيع بالسعر المتعارف عليه، واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقّهم. فالدواء ليس سلعة تخضع للعرض والطلب مثلها مثل السلع الأخرى.
واللافت في التقصير في هذا المجال أن بعض المواطنين اللبنانيّين تمكّنوا من الحصول على لقاح الأنفلونزا الموسمية من سوريا، حيث يتوافر في جميع الصيدليات، ويمكن الحصول عليه مقابل السعر العادي الذي تعتمده السلطات المختصّة.
قد يقول مدافع إن الأزمة عالمية، وإن العديد من البلدان (ولا سيّما في العالم الثالث) تعاني نقصاً في اللقاحات، لأن الدول الكبرى وفّرت ضعف حاجتها من اللقاحات على حساب حاجة البلدان الأقل قدرة شرائية، أي الفقيرة، هذا صحيح، لكن هناك مصادر مختلفة للقاحات، كما هناك خطط مختلفة لمعالجة النقص. لقد خصّصت بعض البلدان مثلاً (في أفريقيا وآسيا)، التي لم تتوافر لديها الكميات الكافية من اللقاح، الفئات الأكثر عرضةً للإصابة مثل كبار السنّ والأطفال والحوامل والمصابين بأمراض الجهاز التنفسي، وأمراض القلب ونقص المناعة ومنحتهم الأولوية في الحصول على اللقاح دون تضخيم غير مقبول للأسعار، كما يحصل الآن في لبنان.
هنا لا بدّ من لفت النظر إلى أنه يجب أن تجري عملية التلقيح في أيلول وتشرين الأول، لأنه بعد ذلك تصبح فعّاليّته محدودة جدّاً. ما جرى في لبنان هو أن اللقاح مفقود منذ منتصف أيلول (الموعد الذي تبدأ فيه غالبية الناس بطلب اللقاح في لبنان، نظراً إلى طبيعة مناخنا الذي لا تنخفض فيه درجات الحرارة قبل هذا الموعد).
وفي إجابة عن استفسارنا من وكيل أحد اللقاحَين جرى التأكيد على دخول كمّية من اللقاح إلى لبنان في بداية أيلول. كذلك أكّدت لنا مصادر الوكيل أن كمّية أخرى منتظَرة نهاية الشهر الجاري. في المقابل أكّدت مصادر نقابة الصيادلة أنْ لا علم لها باحتكار كمّيات من لقاحات الأنفلونزا الموسمية من جانب الصيادلة، وعدّت ما يُقال عن هذا الموضوع مجرّد شائعات. أما المعنيون في وزارة الصحّة، الذين طلبوا عدم ذكر أسمائهم، فأكّدوا أن الوزارة تهتمّ بترتيب استيراد لقاح أنفلونزا الخنازير حين يتوافر لكنها لا تتدخّل في عملية توفير اللقاح الموسمي، الذي يجري حسب الأصول الروتينية مثل كل عام.
من المعلوم أن الصيدلي يملك الحقّ في لبنان بشراء الكميات التي يريدها من معظم الأدوية، ومن ضمنها اللقاحات الموسمية. وبما أن شراء اللقاح من الصيدلية لا يحتاج إلى وصفة طبّية، يستطيع الصيدلاني إذا إراد، تخزين الكميات التي تتوافر له لبيعها بعد خلوّ الأسواق منها بالسعر الذي يريد.
ولا إمكان لدى أية جهة مختصّة للتحقّق من هذا الأمر، لأن التفتيش قد لا يجد أي لقاح في برّاد الصيدلية، بما أن الصيدلانيّ يستطيع أن يحتفظ بهذه اللقاحات في أي براد يشاء.
ما نشهده إذاً من توافر اللقاح لدى البعض بأسعار مرتفعة هو نتاج مبادرة فردية لكسب بعض الربح، بسبب الإقبال الشديد هذا العام على اللقاحات الموسمية.
وعلى الرغم من أن سياسة ضبط توزيع اللقاحات لا تعتمدها وزارة الصحّة لعدم جدواها حسب هذه الوزارة، فإنّ العارفين بالأمور يدركون أنه كان من المفترض إجراء ضبط جزئي على الأقل، يهدف إلى توفير اللقاحات للفئات الأكثر عرضةً لخطر الإصابة بالفيروس، إن لم يكن لدرء الضرر، فعلى الأقل لدرء الذعر العام.