تمثّل الهجرة إلى أميركا اللاتينية طموح كثيرين من أبناء قرى البقاع الغربي الممتدّة من كامد اللوز إلى القرعون. وقد أسست أجيال مختلفة من أبناء هذه القرى أعمالاً مزدهرة، إلا أن ضريبة الحياة الكريمة التي يطمحون لتأسيسها في لبنان غالباً ما تكون مغمّسة بدمائهم، وفي أحسن الأحوال هم معرّضون للسطو أو الخطف من دون أن يعيدهم ذلك إلى لبنان
مفيد مصطفى
ماي كاو هي إحدى مدن كولومبيا التي ساهم اللبنانيون في تأسيسها منذ سبعينيات القرن الماضي، وخصوصاً أبناء البقاع الغربي. تمثّل تلك البلدة نقطة تجارية على حدود فنزويلا، ويروي من وصل إليها من الجيل الأول حتى الجيل الحالي أنها معدومة الأمن والقانون، السارق فيها هو الشرطي والمافيا هي الدولة والقانون، ببساطة هو قانون الغابة. روايات كثيرة لأحداث أقرب إلى أفلام الحركة منها إلى الواقع، يتناقلها أبناء عدد من قرى البقاع الغربي، متحفظين عن ذكر أسمائهم خوفاً من ملاحقة المافيا لأقاربهم «المجبرين» على البقاء هناك تأميناً للقمة العيش.

القتل أسهل الحلول

يروي (ن هـ) ظروف مقتل أخيه (أ هـ) في ماي كاو بالتفاصيل وكأنه عاش اللحظات الأخيرة معه: يقع محله التجاري وشقته في مبنى واحد، وكان يقفل محلّه عند الساعة الخامسة من بعد الظهر، وعندما تأخر يوماً في إقفال المحل استغلت العصابة الفرصة، ويبدو أنها كانت تترصده، وصعدت إلى بيته حيث يسكن أولاده وزوجته التي ما إن رأت غرباء حتى حاولت إغلاق الباب، إلا أن اللص تمكن من إمساك يدها فبدأت بالصراخ طالبة النجدة، عندها صعد زوجها بسرعة إلى البيت حاملاً سلاحه واشتبك مع المافيا التي أطلقت النار، وتسبّبت بإصابته بطلقتين في رأسه نقل على إثرها إلى المستشفى حيث توفي بعد 48 ساعة.
(ن هـ) فقد أيضاً ابن عمه (و هـ) بعدما اختطف قراصنة البحر مرة إحدى البواخر التي تحمل بضائع للتجار العرب، «وبصفته أحد التجار الكبار الذين يملكون خبرة وعلاقات مع القراصنة، طلب منه التجار العرب أن يخلّص لهم البضائع. وفي طريقه للتفاوض مع السارقين أوقفته المافيا، حاول مقاومتهم هو ومرافقه بسلاحهما، إلا أن المافيا أمطرتهما بوابل من الرصاص فأردته قتيلاً على الفور وجرحت مرافقه».
رغم ذلك، يعترف (ن هـ) بأنه أرسل أولاده الثلاثة للعمل في فنزويلا، وقد تعرّض اثنان منهم للسطو المسلح، «مضطرون، لأن سبل العيش غير متوافرة في لبنان، كيف بدن يعملو مستقبل هون؟» مسلّماً أمرهم لله «ما في إنسان بيموت ناقص عمر».
قصة مماثلة على لسان (ح ح) الذي فقد شقيقه (خ ح). وكان الأخير «كلّما جمع مبلغاً من المال يودعه في المصرف، ويبدو أن إحدى العصابات رصدته، وفي إحدى المرات انقض عليه اللصوص وأطلقوا النار على السيارة فقتل على الفور».
إلى القتل، هناك حالات السطو اليومي. (أ هـ) دخل عليه مسلحان يرتديان «شورت» و«تي شيرت»، فهما بطبيعة الحال غير متنكرين لغياب المحاسبة. صوّب الأول المسدس إلى رأس الضحية، فيما بقي الثاني على الباب حاملاً مسدسه، طلب منه اللص إخراج كل النقود من الدرج، فأخرج ألفي دولار صاغراً لأن نتيجة الممانعة معروفة، كما طلب منه اللص قلادةً فيها آية الكرسي كانت أمه ألبسته إياها قبل ذهابه من لبنان، وآلة حاسبة صغيرة موجودة في جيب قميصه. ويقول (أ هـ) إن هذه الحوادث هي حوادث عادية، وهو غير نادم على دفع المال «فالحياة تساوي أكثر من ذلك بكثير».

حالات خطف

(ن ح) دفعته هواية الصيد هو ورفاقه للذهاب إلى إحدى الغابات لممارسة هوايتهم. هناك انقضّ عليهم عدد من المسلحين واختطفوهم إلى جهة مجهولة، وكان بين الذين اختطفوا شابٌ مريض أطلقه الخاطفون وجعلوه صلة وصل بينهم وبين أهالي المخطوفين. وتبين في ما بعد أن الخاطفين هم من «الثوّار» الذين يبحثون عن تمويل لحركتهم السياسية، وقد طلبوا مبلغ نصف مليون دولار، وبعد التفاوض خُفّض المبلغ إلى مئة ألف دولار. أُطلق سراح المخطوفين وقُسّم المبلغ على المجموعة وكانت حصة (ن ح) خمسة وعشرين ألف دولار دفعها بعدما باع محله الذي كان قد فتحه بالدين، وعاد إلى لبنان بجيبين فارغين... قبل أن يعود مجدداً، مع بقية إخوته إلى ماي كاو لكي يؤسسوا أنفسهم من جديد هناك، وخصوصاً أنهم وأولاده شهادات مثلهم مثل عدد كبير من شباب البقاع الغربي الذين لا يكملون تعليمهم ويهرعون سريعاً إلى بلاد معدومة الأمان، أملاً في تأمين مستقبل أسرع.
وإذا كان (ن ح) قد خطف من جانب تنظيم سياسي لم يكن يريد إلا تمويل حركته السياسية، فإن أولاد (م ن) قد خطفوا من مافيا أرادت ربما تمويل نفسها مدى الحياة. في إحدى عطل نهاية الأسبوع بعث الوالد أبناءه الثلاثة الذين يبلغ أكبرهم سناً 18 عاماً من فالنسيا في فنزويلا إلى أحد المنتجعات السياحية، وعلى أحد الطرق النائية أوقفتهم دورية شرطة أنزلتهم من السيارة واختطفتهم، من ثم اتصلت بوالدهم وطلبت فدية بقيمة خمسة ملايين دولار، وحددت للوالد مهلة معينة لدفع المبلغ. بعدما اتصل الخاطفون حاول الوالد خفض المبلغ الكبير فلم يصل إلى نتيجة، وبعد مضيّ ثلاثة أيام هدّد الخاطفون الوالد بقتل الأولاد، وهذا ما نفذوه فعلاً خوفاً من افتضاح أمرهم، لأنهم كانوا عناصر في الشرطة، وقد تمكن الوالد من كشفهم.

ناجون من الموت

(ي ح) كان ينقل أموالاً لشاب من زحلة عندما أوقفه لص ليأخذ حقيبة الأموال منه بالقوة. تمنع الشاب عن تسليم الحقيبة فأطلق لص آخر كان يقف بعيداً النار عليه وأصابه بطلقتين في رجليه. لم يرم الشاب حقيبة المال، وشاء القدر أن يمر سائق تاكسي صديق له ويقلّه إلى المستشفى. هناك سأله المحققون عن الفاعلين فذكر أسماءهم: «لأنهم كانوا جيراني وأعرفهم»، يقول. بعد التحقيق طلبت الشرطة المتهمين: «أو بالأحرى أخبرتهم أني أبلغت عنهم، فالمافيا والشرطة واحد!» يشرح.
القصة لم تنته هنا، فبعد أن علمت المافيا بالموضوع حاولت الانتقام، فاقتحمت بيته وضرب أفرادها الخادمة ثم دخلوا عليه غرفة النوم وأطلقوا عليه 13 رصاصة وهو مستلق على الفراش، عند ذلك وقع على الأرض وادّعى الموت. صدقت العصابة تلك الخدعة فخرجت من البيت، في وقت هرع بعض جيرانه إلى المكان إثر سماعهم صوت الرصاص ونقلوه إلى المستشفى. وكان قد أصابه مطلقو الرصاص بثلاث رصاصات فقط، كانت إحداها قريبة من القلب وأخرى في رجله. طلب الأطباء في المستشفى قطع رجله، لكن شقيقه رفض الفكرة وقرر إرجاعه إلى لبنان لإكمال علاجه. وخلال رحلة (ي ح) إلى لبنان ساهمت شركة الطيران الفرنسية بعلاج جزء من إصابته على نفقتها الخاصة في باريس، وبعد عودته إلى لبنان عالج الجزء الباقي. اليوم كتب الله للشاب عمراً جديداً... ورغم كل ما حدث، إلا أنه يتمنى العودة إلى ماي كاو، «لأنو هون صرلي خمس سنين بلا شغل» يقول. عودة باتت صعبة لأن الدولة الكولومبية ختمت على جواز سفره «غير مرغوب به في الأراضي الكولومبية بسبب إثارة المشاكل».