أهلاً رمضان. لهذا الشهر ميزته الخاصة في صيدا، ففيه من العبادة والتقوى وممارسة الشعائر الدينية بقدر ما فيه عبق ساحر وطقوس تراثية يسهر معها المواطنون حتى الصباح
صيدا – خالد الغربي
تفوح رائحة شهر رمضان من داخل أروقة صيدا القديمة، فيما يضع أصحاب المقاهي ومحالّ بيع الحلويات الرمضانية اللمسات الأخيرة لاستقبال هذا الشهر. في محلة المصلبية، يخبرنا أبو محمد الملاح بأنّه أدخل «خلطة سرية على قطايفه»، لكنه لا يريد أن يكشف سرها كي لا تحرق طبخته «خود فكرة وتذوق بكرا ومالحنا بقطايف»، يقول. مسحراتي صيدا القديمة عباس قطيش استعد هو الآخر. كوى «شرواله» وزيّه العربي التقليدي الذي اعتاد ارتداءه خلال ممارسته «التسحير»، وأجرى «بروفة» على صوته، «مرندحاً» باللازمة «يا نايم وحّد الدايم، وقوموا على سحوركم». لكن قطيش يعترف بأن تأدية دور المسحراتي هي استمرار لعادة قديمة وجزء من طقوس رمضانية ليس إلّا؛ «فعندما أقرع طبلتي ليلاً، يكون أكثر المواطنين قد استيقظوا استعداداً لتناول السحور». تشهد مدينة صيدا منذ أعوام ظاهرة إحياء الليالي الرمضانية التي يسهر خلالها آلاف المواطنين الوافدين من مناطق لبنانية عدة في المقاهي والمطاعم، ولا سيما داخل الأحياء القديمة، وذلك حتى ساعات الصباح الأولى. ومع أنّ الظاهرة تنعش المدينة اقتصادياً، لكن بعض الصيداويين يعتقدون أنّها غير صحيّة، لكون «الفرفشة» تتنافى بحسب محمد ناصر (أحد باعة المشروبات الرمضانية) وطقوس الشهر الفضيل، وتتعارض مع الدين؛ «فرمضان هو شهر للعبادة والتقوى والتقرب إلى الله، وليس للسهر وطق الحنك». ومع ذلك، يعترف ناصر بأنّ ما يجنيه في هذا الشهر يحتاج إلى عام كامل كي يحصّله. وتعلق إحدى السيدات التي اكتفت بذكر اسمها الأول «مهى» على ظاهرة الليالي «الملاح والسهر حتى الصباح» بالقول: «إن رمضان كريم، وما دمنا نقوم بواجباتنا الدينية والمحافظة على جوهر هذا الشهر وروحيته، فلا خوف من عصرنة عادات رمضان وتقاليده».
أمام مقهى الزجاج (الازاز باللغة العامية) التاريخي، راح محمود محسن العلي وجاره صاحب محل الفول حسن المصري يرفعان الزينة الرمضانية التي هي عبارة عن فوانيس رمضانية وأشكال هندسية جميلة، «أهلاً رمضان»، قال العلي الذي أمل أن تكون الليالي الرمضانية التي تشهدها صيدا القديمة جميلة وحافلة بالوافدين ولا تعكّرها الظروف السياسية ولا مشكلة الانقطاع المستمر للكهرباء. وقال إنّ رمضان هو شهر التوبة والمغفرة، وتمنى على السياسيين اللبنانيين «تبريد الأجواء لكي يتسنى للناس قضاء هذا الشهر بعيداً عن التشنج، ولكي ينعم الساهرون في صيدا بالتكوكب اللذيذ حول صاج المناقيش أو صحن الفول والفتة».
«رمضان كريم ينعاد عليكم»، جملة كانت تلوك بها ألسن النسوة في صيدا القديمة، اللواتي زرن الدكاكين العتيقة لشراء المواد الأولية لصنع الحلويات والمشروبات. في هذه الأحياء، لا يزال قسم كبير من المواطنين يحرص على صناعتها بأيديهم للمحافظة على تقليد قديم، ولكون الظروف المادية والاجتماعية لا تسمح لأبناء هذه الأحياء بشراء تلك الحلويات من المحالّ المتخصصة، حيث الأسعار مرتفعة جداً.
في انتظار حلول رمضان، راحت الأناشيد الإسلامية تصدح من أحد المحالّ. ينسجم المارة مع الأنشودة التي تقول: «صمنا والصوم مبارك برمضان الله بارك، أرينا (قرأنا) آيات قرآن جزء عم وتبارك (جزءان من القرآن)». و«من كان معذوراً في إفطاره فليستتر»، حديث ديني خطّه صاحب دكانة «الفرح» بيده على كرتونة بيضاء علقها على باب محله بمثابة «إنذار للمفطرين».
«إسألهم، ما هنّي إعلاميين وبيعرفوا!» قالها صاحب مقهى صغير لجاره، لكن الاستفسار لم يكن كما توقعنا مرتبطاً بما ستؤول إليه الأوضاع المحلية وبتأثيرها على حركة هذا الشهر الفضيل، بل اكتشفنا أنّ صاحب المقهى وجاره يريدان منا معرفة مصير «أبو شهاب وأبو عصام» في الجزء الخامس من المسلسل السوري باب الحارة، وإن كانا سيعودان، وما إذا كانت المعلومات صحيحة عن زواج ثالث يعتزم «عصام» القيام به. ومتى أجبناهما بنفي معرفتنا بتطورات الموقف، قال أحدهم بلكنته الصيداوية: «عشان شو عاملين صحفيي؟».
ومع حلول رمضان، يخشى معظم الصيداويين، كما هي حال باقي اللبنانيين، ارتفاع أسعار الخضار والفواكه في هذا الشهر؛ فعادة ما يستغل التجار إقبال المواطنين على شرائها ليرفعوا الأسعار. فتقول ربة المنزل أم محمود الجعفيل: «في شهر رمضان الذي هو شهر للعبادة والتقوى، يعمد التجار إلى ممارسة أبشع أنواع الاستغلال، فيرفعون الأسعار من دون حسيب أو رقيب، وعِش يا فقير».