حلّ «الشهر» أمس على عاصمة الشمال، فدبّت في المدينة حياة من نوع خاص، أصبحت فيها دورة الحياة مرتبطة بإمساكية رمضان. عادت الطقوس الخاصة، فنزل الجلاب إلى الأسواق، التي ازدحمت بالزبائن. واستعدّ المسحراتي الأشهَر هنا، لليلته الأولى، فلبس لبوس مهنة بدأها منذ مراهقته قبل أن تصبح بالنسبة إليه وجهاً آخر من شخصيته ونمط حياته
طرابلس ــ عبد الكافي الصمد
كالعادة، ما إن يهلّ شهر رمضان على طرابلس حتى تنقلب المدينة رأساً على عقب، وتصبح كل تفاصيل الحياة بمختلف أشكالها في عاصمة الشمال مربوطة بتوقيت محدد. فالحركة في الأسواق نشيطة جداً وإقبال المواطنين على التزوّد بحاجياتهم يشهد فورة غير طبيعية، إذ فضلاً عن «عجقة» الشوارع، فإن المحال التجارية، وخصوصاً محال الحلويات والخضر والفواكه واللحوم، تزدحم بالزبائن بنحو غير مسبوق، ما يجعل المرء يسمع في الشارع مراراً عبارة لافتة: «ليش الناس فجعانة، شو هجم الجوع؟».
في غضون ذلك تحضر مشاهد شهر رمضان التقليدية في طرابلس بطريقة بارزة، من انتشار أضواء الزينة، التي نشرتها البلدية في الشوارع، إلى تزايد أعداد المصلين في المساجد، وحتى في باحاتها، وتكاثر باعة عصير التوت والخروب والجلاب وغيرها، كما باعة القطايف والمغربية، بموازاة عودة المسحراتي إلى ممارسة مهنة غاب عنها أحد عشر شهراً، مهنة موسمية لها لبوسها الخاص وطقوسها وأجرها، ما يجعل من أبو طلال، أي المسحراتي، أحد المظاهر البارزة في طرابلس، التي لا تزال تحافظ عليه كوجه ثقافي ـــــ تراثي لافت.
وفي زحمة المدينة القديمة التي تتجاور فيها الأسواق، وخاصة أسواق الطعام واللباس، وأمام مكتبه الصغير الكائن في ساحة النجمة وسط طرابلس القديمة، في محاذاة الجامع المنصوري الكبير، يجلس رضوان عثمان (المشهور بكنية أبو طلال) على كرسي خشبي، منتظراً حلول المساء للاستعداد لمهمته في اليوم الأول من شهر رمضان، أي مسحراتي. يندر أن يمرّ أحد على الرصيف الذي يجلس فوقه أبو طلال، من غير أن يلقي عليه التحية، رجلاً كان أو امرأة. فالرجل الذي يعمل في هذه المهنة الموسمية منذ 54 عاماً، ويقدّم القهوة والشاي في واجبات العزاء، بات من أعلام المدينة ووجوهها الاجتماعية المعروفة في مختلف الأوساط، حتى باتت كنيته تطغى على اسمه، وهو ما اعترف به بإشارته إلى أنه «إذا سألت عن رضوان عثمان فلن يعرفني أحد، لكن إذا قلت مين أبو طلال، يندر أن تجد أحداً في طرابلس لا يعرفني».
«كان عمري 14 سنة عندما بدأت عملي مسحراتياً في طرابلس إلى جانب أبي، الذي ورث المهنة عن جدي، وأنا بدوري سأورثها إلى ولدي طلال (30 عاماً) وطارق (28 عاماً)، لأنه لم يبق من العمر أكثر مما مضى»، يقول مبتسماً كمن أدّى كل واجباته وبات راضياً. هذه المهنة التي «لقطها» أبو طلال عن والده وجده، تُعدّ «إرثاً عثمانياً في طرابلس، وهي موزّعة بين عائلات المدينة» حسب قوله، مشيراً إلى أن «هناك في كل منطقة ما لا يقل عن مسحّراتيّين أو ثلاثة مسحراتيين على الأقل. ففي الميناء مثلاً آل الغندور، وفي القبة آل الزاهد، وفي باب التبانة وجوارها آل اللوزي».
عدة أبو طلال أثناء تجواله ليلاً في شوارع طرابلس لإيقاظ النائمين من أجل السحور موزّعة بين الطبول والصنوج فضلاً عن ارتدائه الطربوش والعباءة، إلى جانب تزوّده أجهزة إنارة يدوية تعمل على الغاز (اللوكس) «للاستعانة بها عندما تكون الكهرباء مقطوعة، أو أثناء تجوالنا في أحياء وأزقة معتمة»، يقول موضحاً. عبارة «يا نايم وحّد الدايم» لا تفارق أبو طلال ولا غيره من المسحّراتيين، إلا أن أبو طلال يزيد عليها مدائح وأناشيد دينية يلقيها بصوته، من غير أن ينسى أن ينادي بالاسم على كل شخص يمرّ قرب بيته، لافتاً إلى أن «بعضهم يتصل بي في اليوم التالي إذا لم يستيقظ للسحور، أو إذا مررت قرب بيته ولم أناد عليه. لقد تعوّدوا عليّ».
الحديث مع أبو طلال تقطّع أكثر من مرة، فتارة يرد على اتصال هاتفي من شخصيات سياسية مسيحية وإسلامية تتصل به مهنّئة بشهر رمضان، وتارة أخرى يردّ التحية على عشرات المارة أمام مكتبه، لدرجة أن أحدهم من آل المقدم يدخل إلى المكتب ويقبّله في رأسه ويهنّئه بالشهر، ويقول مشيداً به: «أبو طلال هو رمز طرابلس وميزانها. في شهر رمضان يؤدي واجب المسحراتي، وفي «العزوات» (التعازي) يعرف حجم كل شخص ويجلسه في مكانه المناسب».
ومع أن أبو طلال يكتفي بنجليه طلال وطارق أثناء تجواله لإيقاظ المواطنين للسحور، إلا أنه في جولة الوداع التي يقوم بها في اليوم الأخير من شهر رمضان، يرافقه فيها شبان لا يقل عددهم عن خمسة، حيث يرددون فيها الأناشيد والموشحات، بعد أن يكون قد مرّ على بيوت المناطق التي أدّى فيها مهمته طيلة شهر كامل من أجل الحصول على «المعلوم». عند هذه النقطة يتوقف أبو طلال ليشكو وجود «شباب لا دخل لهم بالموضوع، يدخلون إلى البيوت في الأيام الأولى من رمضان، ويقولون إنهم مسحراتيّون، وأحياناً يدّعون أنهم يعملون معي، فيأخذون تعبي من أمامي بلا علمي، لأنه عندما أزور هذه البيوت أواخر الشهر يقولون لي إن جماعتك مرّوا وأخذوا رزقتهم، لكنّ أغلبيتهم والحمد لله لا يعطوني إلا بيدي».
غير أنه إذا كانت جولات أبو طلال صيفاً لا تعوقه، فإنه عندما يحلّ رمضان في فصل الشتاء يواجه صعوبات في تنقّله، لكنه يتجاوزها من خلال «استعمالي المظلة وارتدائي ألبسة تقيني الأمطار والبرد». أبو طلال الذي يعتزّ بأنه يؤدي مع آخرين في طرابلس مهمة، «يجعلها تعيش أجواءً رمضانية خاصة ليست متوافرة في أي منطقة لبنانية أخرى»، يستذكر حوادث تعرّض لها أثناء عمله، وخصوصاً في زمن الحرب. فيقول «تعرّضت مرة لسقوط قذيفة قربي على طريق الميناء، فقتل من كان معي ونجوت أنا بأعجوبة ربانية»، مضيفاً أنه منذ نحو 25 سنة «تعرّضت أثناء جولة الوداع (الليلة الأخيرة) لشلة شباب حرامية، ضربوني وشلحوني الغلة وساعة إيدي، لكنني نجوت منهم والحمد لله».


منطقة أبو طلال

لكل مسحراتي كما ذكرنا منطقة اختصّ بتسحيرها. والمنطقة التي يعمل فيها أبو طلال وولداه تشمل الأحياء الآتية: شارع المعرض، طريق الميناء، شارع المنلا، شارع السكر، شارع المطران، شارع عزمي، شارع الثقافة وشارع المدارس، حيث يبدأ جولته فيها من الواحدة والنصف بعد منتصف الليل وتستمر حتى الثالثة والنصف فجراً. ويقول أبو طلال إنه يجول «طبعاً على قدميّ برفقة ولديّ طلال وطارق، باستثناء منطقتين في محيط منتجعي الناعورة (ضواحي طرابلس وأطرافها) والبالما عند المدخل الجنوبي لمدينة طرابلس، أجول فيهما بالسيارة».