ضحى شمسكان الأمر أشبه بشخص ينتشلك من لجة عميقة، الى الهواء الحر. كأنك كنت تغرق لفترة طويلة، ثم فجأة رفعت رأسك فإذا بك فوق الماء، تكتشف مرة أخرى ما معنى التنفس، وتنظر بعينين تعاركان أثر المياه المالحة الى الأفق الجميل، تكتشف السماء، والغيوم، والهواء، والطيور. كأن حراشف كانت قد بدأت تنبت في جسمك لطول مكوثك تحت، في مستنقع التفاهة المبتذلة، كنت قد بدأت تتأقلم، ثم، مصادفة، رفعت رأسك، فشممت رائحة الهواء النقي. تأخذ نفساً عميقاً، تبتسم مغمضاً عينيك للحظة، لتحتفظ ما أمكن بهذا الإحساس وتبكي. كل ذلك لمجرد أن هناك من روى لك قصة بإتقان، أحيا ما كنت تظنه مات من خيالك، خطفك لساعة ونصف، رفعك الى سماء الحلم، ثم ترفق بإعادتك الى حيث كنت، على الكنبة أمام التلفزيون.
«نفرلاند» كان اسم الفيلم الذي شاهدته بين مسلسلين. يحكي الفيلم قصة كاتب حكاية الاولاد «بيتر بان». لم تأثرت لهذه الدرجة؟ سألت نفسي. لم لم يخطف الفيلم عقلي قبل سنوات حين رأيته؟ هل لأنني وقتها لم أكن جائعة الخيال لهذه الدرجة؟ لم أكن غريقة في مستنقع اسمه التلفزيون، حيث لا تشكل نشرة الأخبار، ودراما رمضان في آن واحد، إلا تكثيفاً استثنائياً لتفاهة الحياة العامة وابتذال كليشيهات الخير والشر. لا يعرف أحفاد مؤلفي ألف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن، كيف يروون قصة جيدة، مقنعة، متقنة التفاصيل. قصة تستطيع أن تقوم بوظيفتها بإغناء الخيال وإمتاع الحس ولو مساحة ساعة. وأرض الخيال، ليست بحاجة الى أكثر من ساعة لترتوي. فالساعة فيها أطول بكثير من وقتها الأرضي، لأنها تبقى في دواخلنا، غذاءً سحرياً مربوطاً بحبل سرة الروح. تبحث في المسلسلات الرمضانية عن الارتواء، فلا تصيبك شراسة المنافسة للفوز، إلا بالتوتر: منافسة بين القنوات، بين المسلسلات وبالطبع بين النجوم. شراسة دون إعارة أي انتباه وجهد للإتقان، للإقناع. تضيع بالمتابعة بين مسلسلات مختلفة، لكن بممثلين، وأزياء متشابهة. كأن الحكاية وحدها تهم. تمثيل بمعظمه تافه، شخصيات نسجت على عجل. أما الديكور؟ فهو الطامة الكبرى. كأنه ديكور شفوي. تفاصيل الملابس، الماكياج، الإيقاع الداخلي. كأننا عبرنا قرناً من تطور التقنيات البصرية، لنتعامل مع التلفزيون كصندوق فرجة يعرض «جمال» ممثلينا. نوع من «بوديوم». يكفي فيلم واحد، مثل «نفرلاند»، بديكوره، بحواره، بتمثيل أشخاصه، لتحدث المقارنة المبكية. مجرد ساعة ونصف تكشف الى أي درك من الابتذال قد تدهور خيالنا، من خلال مساومة مديدة بين ما يعرض علينا وبين ما نحتاج إليه. تعبنا من المساومة فأصبح خيالنا واطئاً لدرجة أنه لن يتوجع إن وقع أرضاً.
نحن بحاجة إلى حكاية بصرية نصدقها. الناس أنفسهم الذين يصنعون «نجاح» المسلسلات الغبية منذ سنوات بحاجة إلى ذلك. لا تنظر الى ما يقبلون على مشاهدته برغم تفاهته. انظر إليهم عندما يشاهدون شيئاً جيداً، كيف يولدون من جديد. كأن الأمر الجيد، وحده، يخرج منهم أمراً جيداً. كأنهم ثابوا، سحابة فيلم، إلى رشدهم. خيالنا يتضوّر جوعاً منذ زمن طويل. وهو لا يكتفي بأن يعبّر عن نفسه في تفاهة الإنتاج الثقافي، بل بالمكان الأخطر: الحياة العامة. تحول الشعب الى مجرد جمهور، مطلوب منه أن يصفق أو أن يصفّر. لا شيء بين الاثنين. تفاهة الروح مفتاح لتفاهة العقل. بعقول كهذه يستطيع السياسيون أن يتحكموا. وكلما قبل الناس النزول درجة، نزلوا درجتين. لا قعر للابتذال، تماماً كما لا حدود لجموح الخيال.
منذ زمن طويل لم يخرج المصريون أجمل ما عندهم. ربما لأنهم متعبون مثلنا ويائسون. السوريون يحاولون. من وقت إلى آخر يلمع عمل، أو ممثل أو فكرة. ولكن لا بنية تحتية تراكم كل ذلك. المصريون غارقون بعبادة أصنام صنعوها لأنفسهم. شراسة النجوم للحفاظ على نجوميتهم تستحوذ على أدائهم. هم لا يمثلون إلا أنفسهم منذ زمن بعيد: يسرا تمثل يسرا، نادية الجندي تمثل نادية الجندي وعبلة كامل تمثل عبلة كامل. حتى سلاف فواخرجي في مسلسلها «العائلي» كليوباترا، لا تمثل إلا سلاف فواخرجي. كل «أفكار المسلسلات» لا تدور إلا حول إبراز «مفاتن» النجمات وذكورية الرجال ووطنيتهم، اضافة الى إيمان سائر من في المسلسل. الكل مؤمنون، بالطبع، وهل يجرؤ أحد على عكس ذلك، وفي رمضان؟ أصلاً، هل يخطر ببال أحد عكس ذلك؟ هذا هو السؤال المهم.
هل المشكلة في الإنتاج؟ في مصر وسوريا الإنتاج مسؤولية القطاع العام اولاً. وهو أمر جيد جداً برغم كل الملاحظات على تآكله بتواطؤ أحياناً من موظفي الدولة، لمصلحة الإنتاج الخاص. والإنتاج الخاص لا يستطيع في بلادنا إلا أن يكون تجارياً، لأن كل شيء يتضافر لجعله كذلك، وخصوصاً مستوى تطلب الناس. الدولة وحدها تستطيع أن «تخسر» على عمل جيد مكلف هنا، لتربح هناك، في أرض الخيال العام. فحين ينمو الخيال العام ويتسع، نحصل على مساحة إضافية تجمع بيننا. مساحة غير منظورة من الوطن اسمها الهوية.