أخطاء بدلالات كثيرة
عمر نشّابة
«لا بد أن ينطوي كل تحدّ جديد يسير المرء فيه في المجهول على عنصر التجربة والخطأ» (الفقرة 4) وبهذا المعنى تضمّن تقرير القاضي أنطونيو كاسيزي أخطاء يناقش بعضها في الفقرات الآتية:

الرئيس يحشر نفسه

دوّن القاضي أنطونيو كاسيزي، رئيس المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين، في أعلى الصفحة الأولى من تقريره السنوي الأول، الكلمات الآتية: «حضرة الأمين العام للأمم المتحدة، السيد بان كي مون، ومعالي رئيس مجلس الوزراء، السيد سعد الحريري». يبدو ذلك للوهلة الأولى بديهياً، غير أنه يطرح إشكالية عدلية: إن تواصل القاضي رئيس المحكمة مع الضحية يضعف صدقيتها. إذ إن قواعد العدالة تقتضي فصل القاضي عن الضحية قدر الإمكان لضمان بقائه على الحياد. وقد يبرّر كاسيزي تقديم التقرير إلى الضحية لاعتباره إياها المرجع الرسمي الذي يفترض تقديم التقرير إليه عملاً بالفقرة الثانية من المادة العاشرة لنظام المحكمة التي نصّت على: «يقدّم رئيس المحكمة الخاصة تقريراً سنوياً عن عمل المحكمة وأنشطتها إلى الأمين العام وإلى الحكومة اللبنانية». واحترم رئيس المحكمة، التي أنشئت بتجاوز للدستور اللبناني، المادة 64 منه التي تنصّ على أن «رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم باسمها». لكن ذلك لا يحلّ المشكلة لأن القاضي كاسيزي نفسه كان قد اعتذر عن عدم لقاء «دولة الرئيس سعد الحريري» خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان بحجّة «الحفاظ على حياد المحكمة». ففي 29 كانون الثاني 2010 صدر عن المحكمة الدولية بيان جاء فيه «من أجل الحفاظ على حياد المحكمة، تم التوافق على عدم مقابلة القاضيين كاسيزي والرياشي دولة الرئيس سعد الحريري ومعالي الوزير الياس المرّ خلال هذه الزيارة نظراً إلى صلتهما الشخصية بملفاتٍ قد تقع ضمن صلاحية المحكمة». رئيس المحكمة ومكتبها الإعلامي الذي نشر البيان، حفرا حفرة ووقع فيها كاسيزي، بينما كان يمكنه، ربما، الإفلات منها عبر ارتكازه، خلال جولته في لبنان، على مضمون الفقرة 20 من تقريره التي تنصّ على «لا يمنح المتضررون صفة المشاركين إلا بعد تصديق قرار الاتهام، وعندما تشرف مرحلة التحقيق على الانتهاء». لكن يبدو أن مستشاري كاسيزي القانونيين والإعلاميين يعانون ضعفاً ينبئ بتفاقم مشاكل المحكمة خلال المراحل المقبلة.
ويتوقّع أن تمدّد ولاية قضاة المحكمة، بمن فيهم رئيسها ونائبه، ثلاث سنوات إضافية بعد انتهاء ولايتهم الحالية في 2011. وسيطرح ذلك المشكلة نفسها من جديد، إذ إن الاتفاقية الدولية المرفقة بقرار 1757 تنصّ على: «يعيّن القضاة لفترة ثلاث سنوات ويجوز إعادة تعيينهم لفترة أخرى يحددها الأمين العام بالتشاور مع الحكومة» (المادة 2 الفقرة 7). كيف يمكن كاسيزي ورياشي اللذين لم يقابلا الرئيس سعد الحريري في بيروت بسبب صلته «الشخصية بملفاتٍ قد تقع ضمن صلاحية المحكمة» أن يقبلا إعادة تعيينهما في المحكمة «بالتشاور مع» الرئيس الحريري نفسه؟

استعجال توسيع الاختصاص

يذكر كاسيزي في تقريره: «تعدّد المادة 1، الفقرة (1) من النظام الأساسي، والتي تنص على اختصاص المحكمة، ثلاث فئات للجرم: أ) الاعتداء على الحريري؛ ب) اعتداءات أخرى وقعت في لبنان في الفترة بين 1 تشرين الأول 2004 و12 كانون الأول 2005؛ ج) وغيرها من الاعتداءات التي وقعت بعد 12 كانون الأول 2005، بناءً على اتفاق بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية، وبموافقة مجلس الأمن» (الفقرة 180). لكن ذلك ليس دقيقاً فهو تجزئة لما ورد في نظام المحكمة الأساسي، حيث إن المادة الأولى منه تشترط وجود ترابط بين الجرائم الأخرى وجريمة اغتيال الحريري. لكن كاسيزي تجاهل ذلك في هذه الفقرة من تقريره. وهنا النصّ الحرفي في النظام الأساسي: «إذا رأت المحكمة أن هجمات أخرى وقعت في لبنان في الفترة بين ١ تشرين الأول ٢٠٠٤ و١٢ كانون الأول ٢٠٠٥، أو في أي تاريخ لاحق آخر يقرره الطرفان ويوافق عليه مجلس الأمن، هي هجمات متلازمة وفقاً لمبادئ العدالة الجنائية وأن طبيعتها وخطورتها مماثلتان لطبيعة وخطورة الهجوم الذي وقع في ١4 شباط ٢٠٠٥، فإن المحكمة يكون لها اختصاص على الأشخاص المسؤولين عن تلك الهجمات».
كاسيزي نفسه يذكر في تقريره أنه «من أجل إيجاد الترابط، ينبغي على المدعي العام أن يواصل التحقيق في الاعتداءات الأخرى من خلال متابعة وثيقة ومنتظمة للتقدم الذي أحرزته السلطات القضائية اللبنانية» (الفقرة 181). وفي الفقرة 192 يذكّر بوجوب «مواصلة التوسع في التدقيق في الأدلة المتصلة بعناصر الترابط بين الاعتداء على الحريري والاعتداءات الأخرى». يعني ذلك بوضوح أن المحكمة لم تتوصّل حتى اليوم إلى حسم التلازم بين جريمة اغتيال الحريري والجرائم الأخرى. وبالتالي ارتكب كاسيزي أخطاء في فقرات من تقريره رأى فيها أن هناك «اعتداءات أخرى مترابطة» يدخل «التحقيق مع الأشخاص المسؤولين عنها» ضمن مهام مكتب المدعي العام الدولي (160). ويبدو أن كاسيزي لم يقرأ جيداً حرفية الفقرة الأولى من المادة 11 التي يرتكز عليها في الفقرة 160 من تقريره التي تنصّ على: «يتولى المدعي العام مسؤولية التحقيق مع الأشخاص المسؤولين عن جرائم داخلة في اختصاص المحكمة الخاصة، وملاحقتهم».

كاسيزي لم يقابل الحريري في بيروت بسبب صلته الشخصية بملفات المحكمة

يكرّر كاسيزي مصطلح «الاعتداءات المترابطة» مستبقاً نتائج التحقيق التي تتيح وحدها لقاضي الإجراءات التمهيدية البلجيكي دانيال فرانسين حسم وجود ذلك الترابط أو عدمه. ففي الفقرة 7 يقول كاسيزي: «تتمتع المحكمة باختصاص على الأشخاص المسؤولين عن الاعتداء الذي وقع في 14 شباط/ فبراير 2005 (...) وعلى اعتداءات أخرى مترابطة وفقاً للمبادئ المنصوص عليها في المادة 1 من النظام الأساسي للمحكمة». ويستخدم الجمع عندما يتحدّث عن الجريمة التي صنّفها مجلس الأمن «إرهابية» وذلك في الفقرتين 3 و9 ــ ب: «هذه المحكمة التي تنظر حصريّاً في قضايا الإرهاب كجريمة بحدّ ذاتها» (3) بل الصحيح قانونياً، قبل إعلان قرار فرانسين بخصوص الترابط، هو أن هذه المحكمة تنظر في قضية إرهابية كجريمة بحدّ ذاتها.
لكن يرجّح أن كاسيزي نفسه، الذي طالما عمل في محاكم دولية لمقاضاة المسؤولين عن جرائم حرب وجرائم إبادة وجرائم ضدّ الإنسانية سقط ضحيتها الآلاف، يجد نفسه محرجاً أمام الاختصاص الضيّق للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان. ففي لبنان والمنطقة المحيطة به، وقعت وتقع مئات الجرائم ويُقتل الآلاف، بينما يقتصر اختصاص المحكمة الخاصة بلبنان على جريمة اغتيال شخص واحد (يستحقّ طبعاً العدالة كغيره من البشر) وجرائم أخرى فقط إذا ثبت تلازمها مع تلك الجريمة.


خبرة في محاكمة قتلة رؤساء الوزراء