في عام 2000، فقدت إحدى مدارس بيروت طفلاً. اليوم، قررت إحدى صديقاته، التي تجرّعت معه الوقت، أن تنشر ما كتبته له خلال سنوات موته. وقّعت جيهان كتابها أمس، وسمّت صاحبه «ملاكاً»
أحمد محسن
قبل عشرة أعوام، فقدت جيهان وأصدقاؤها زميلاً كان في الرابعة عشرة من عمره فقط. كان فتى عادياً. لم يعلم وجهته الأخيرة لأنه كان طبيعياً: يشارك الزملاء الخوف من الأساتذة، ويحلم بأن يتخرج من جامعة مهمّة. لم يكن منعزلاً أو انطوائياً لنقول إن ثمة تميّزاً في شخصيته. على العكس تماماً، فقد شارك في كل شيء تقريباً. ظل فترة طويلة كالأولاد الآخرين مكتفياً بالدراسة والأحلام. لم يخبره أهله عن موته القريب. كان الجميع يعلم إلّا هو، حتى بعض أصدقائه ومعلميه ومعلماته. لم يعلم إلّا عندما استفحل السرطان في جسده. أجهز عل طفولته، فوجد طريقه إلى السماء باكراً. باكراً جداً.
اليوم بعد عقد كامل، تكتب له جيهان، زميلته وصديقته. يمكن القول إن محتوى كتاب عاطفي كهذا قد يكون معروفاً، أو مألوفاً على الأقل بالنسبة إلى كثيرين. لن يتوقع القارئ أكثر من مجموعة خواطر شخصية، دأبت جيهان على كتابتها مستفيدةً من تواتر السنين والعاطفة الكبيرة التي يخلّفها الموت. لكنّ، الأمر مختلف قليلاً. جيهان لم تعد طفلة. صارت شابة في الرابعة والعشرين من عمرها. تعتّقت الحكايات في ذاكرتها، وقررت أن تُخرج هذا الموت من رأسها. أن تحيّي صديقها بطريقة تليق بسريره الأبدي الهادئ، فكتبت له. ما زالت تشتاق إلى صديقها، حتى إنها، إكراماً لذكراه، ولأسرته، تصرّ على عدم ذكر اسمه. إذاً، فلنسمّه «ملاك». الملائكة على ذمة الكاتب المغربي محمد شكري هم الصغار. لا يمكن الكبار أن يكونوا ملائكة. يفوتهم ذلك بعد الطفولة. وعلى طريقة الكاتب اللبناني ربيع جابر، ملاك الذي كتبت عنه جيهان، سيبقى صغيراً ولن يكبر. سيبقى صغيراً لأنه مات، ولأن سرطاناً أقلَّه إلى الله قبل الأوان.
تبدأ جيهان كتابها من النقطة الصفر. هكذا تعرفت إلى ملاك، وهكذا كبرا معاً في رحاب المدرسة. القصص الفرحة العادية ليست إلّا مقدمة. وهنا، ينكسر قلب جيهان قليلاً، وهي تبحث عن الكلمة المناسبة، لتصف الجزء الأساسي من الكتاب. تقول: «معركته مع المرض» أولاً. لا تبدو مقتنعة بحالة المعركة، وخصوصاً أن النتيجة كانت معروفة سلفاً. تستجمع ذاكرتها وتعلن: «نضاله مع المرض». هذا الوصف ملائم للواقعة. ولا تتوقف النصوص المكتوبة باللغة الفرنسية، على ملاحظات علقت في ذاكرة جيهان، وقصص تبادلتها مع ملاك في المرحلة الأولى، ومع موته في المرحلة الثانية. روت تفصيلياً معاركها هي الأخرى مع الذاكرة، وكيف استطاعت التخلص من صورة صديقها على مقاعد الدراسة، أو على الأرصفة، يحمل حقيبته المدرسية، عائداً إلى موته لا إلى منزله. نجحت في النهاية في التصالح مع المرحلة، وتدريجياً، تقلّص ألمها، واحتفظت بصورة باسمة لملاك. تؤكد أنها اضطرت إلى التعبير بالكتابة ولم تجد طريقاً آخر. ساعدها على ذلك أنها استعانت بأشخاص وجمعيات واجهوا أموراً مشابهة، فشجّعوها على توثيق رمزي لعلاقتها بملاك. وعندما اتخذت القرار الحاسم بالكتابة، لجأت إلى الماضي مجدداً، وتحديداً إلى صديق من المقاعد ذاتها، حيث نشأت جيهان وعبث ملاك بآخر دفاتره.
حضر أمس إداريون من المدرسة، وناشطون من جمعيات أهلية. الأصدقاء الآخرون رغم تفاعلهم الحقيقي مع الذكرى، كما تؤكد جيهان، غير قادرين على حضور توقيع الكتاب اليوم، لأن معظمهم غادر البلاد، وكلٌّ منهم يتفاعل مع صديقهم على طريقته. الفرق بينهم وبينه، أنهم صاروا كباراً. ملاك ظل صغيراً.


ريعُ الكتاب لجمعية خيرية

وقّعت جيهان داغر حايك (الصورة) كتابها «ملاك المتوسط الرابع»، أمس، في مكتبة أنطوان في مجمع ABC الأشرفية في الساعة السادسة مساءً. وشارك في الحفل عدد من أصدقائها وإداريو المدرسة التي نشأت فيها هي وصاحب الذكرى، الذي يتحدث الكتاب عنه. وأشارت جيهان إلى أن ريعَ الكتاب سيعود إلى جمعية «أمنية» الخيرية، التي تُعنى بمساعدة الأطفال المصابين بأمراض مستعصية، إضافةً إلى كونه تحيّة إلى زميلها الذي مات بالسرطان. وكتبت حايك معرّفةً عن كتابها: «في الرابعة عشرة قررت الكتابة لأول مرة. كنت طفلة لا تستطيع العيش مع حزنها، فقررت الكتابة كي لا أنسى. الكتابة عن لقائي به: ملاك الصف الرابع. الكتابة عن مرضه، عن جهاده، عن أحلامنا، عن مشاعرنا، عن الطريق التي عبّدناها معاً، والفراغ الذي تركه عندما رحل».