فضل ضاهر *بداية الطريق تكون بإسماعنا مفردات عزيزة ونادرة كالسياسة الوطنية الأمنية والسياسة الوطنية العقابية. وفي التوصيف الواقعي، وعلى المستوى المفاهيمي التأسيسي، لا نبالغ في الإشارة إلى غياب أي فكر عقابي مستند إلى التقديمات الحديثة للعلوم الجنائية والعقابية. وما من أحد يستطيع إنكار حقيقة ما يثار كل يوم في الإعلام، والذي ازداد سوءاً عن التوصيف الذي سبق أن وضعناه في تقرير رفعته وزارة الداخلية إلى مجلس الوزراء ونشر في الصحف كاملاً بعنوان «وزارة الداخلية: أوضاع السجون في لبنان مزرية» (1997). كانت الوزارة تسعى يومها إلى تمويل يقارب ثمانين مليار ليرة مجدولة بموجب قوانين ــــ برامج في إطار تنفيذ تصاميم موضوعة من مصلحة المباني في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لإنشاء سجون حديثة في المحافظات. ويومها، أثير موضوع انتقال إدارة السجون إلى وزارة العدل إنفاذاً للمرسوم الاشتراعي 151/83، لكنه سقط بالضربة القاضية بفعل المحاصصة والحسابات الضيقة. ويومها أيضاً، لم تتوافر إرادة التغيير التي تفترض مقاربة موضوع السجون باعتباره من الأولويات، والاقتناع بأن غاية السجن لم تعد كما كانت في القرون الوسطى قائمة على التخلص من المجرم والاقتصاص منه بعزله عن المجتمع داخل الزنزانة حيث يُسام صنوف التعذيب النفسي والجسدي كي ينال قسطاً من الألم موازياً أو يزيد عن ذلك الذي سبّبه للضحية.
لقد آن لنا إدراك أن دور السجون أصبح الإصلاح والتأهيل بهدف تخليص السجين من دوافع إجرامه وتوفير شروط إعادة اندماجه في محيطه الاجتماعي. والمجتمعات الحيّة عليها واجب استعادة هذا السجين المحتاج إلى العناية وتحويله إلى رافد يضاف إلى عناصر القوة داخل المجتمع، فيما التخلي عنه سيخلق كرة ثلج يتأذى منها السجين وعائلته ومحيطه وسائر مكونات المجتمع. أفليس هذا ما أرسته مدارس علم العقاب منذ تلاميحها الأولى مع بكاريا وتأصيلها مع فري وصولاً إلى غراماتيكا ومارك أنسل ووايت الذي أكّد أن «وراء كل جريمة حالة خاصة»؟ ثم أليس هذا ما أكّدت عليه القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (المواد من 57 إلى 61) وكذلك المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 45/111 تاريخ 14/12/1990)؟
وإذا كان لبنان قد وقع على وثيقة القواعد المذكورة أعلاه، فما مبرّر الاحتفاظ بمشهد القضبان الصدئة تسلب القابعين خلفها إنسانيتهم وتثخنهم جراحاً نفسية قبل الجسدية، فتذبل جذوة الطموح وإشراقة الأمل لديهم، ويضيع المستقبل الواعد عليهم وعلى المجتمع؟ وأين نحن مما يُدرّس في الجامعات من أنظمة متعددة للسجون، من الانفرادي إلى الجماعي إلى المختلط إلى المتدرّج وصولاً إلى نظام بناء الثقة وما يرتبط به من مؤسسات مفتوحة وتدابير شبه الحرية؟ ومن حرّيات مشروطة وعقوبات بديلة لتلك السالبة للحرية الفردية؟ وماذا عن حقوق السجين بالفحص والتصنيف والتغذية والطبابة والتعلم والتهذيب والرعاية الصحية النفسية والجسدية والرعاية الاجتماعية؟
وهل نكتفي ببعض النصوص الموزعة بين قوانين العقوبات والأصول الجزائية وغيرها مما يؤسفنا ملاحظة أن بعضه غير قابل للتطبيق، وأن البعض الآخر لا يطبق، فيما الغالب عليها عدم مراعاة حتمية ردم الهوة بين التطور الاجتماعي المتواتر والسريع وجمود النص القانوني، لا سيما أن بعض الأحكام تدفع باتجاه سلوكيات منحرفة وإجرامية؟ وهل المعنيون بالأمر يرون إمكانية إحداث أي تغيير قبل تعديل المرسوم 14310 (نظام السجون) المستمر منذ 12/2/1949 والذي يجافي في بعض أحكامه قواعد الاتجاهات الحديثة لعلم العقاب، لا سيما لجهة إلزامية الكشف على السجناء وتصنيفهم قبل حبسهم تبعاً لنوع الجرم وخطورته؟
وماذا عن انعدام المعايير العالمية لإيفاء السجين بدل جهده في المشاغل التي تحتاج إلى خطة مستقلة لتطويرها ولتحديث نظامها بدءاً من تصحيح تسمية رؤساء وأعضاء اللجنة الإدارية المكلفة بإدارة المشاغل ومراقبتها وفقاً للمادة 120 من نظام السجون التي أوكلت رئاستها وعضويتها إلى شاغلي مواقع غير موجودة في الإدارة مثال «لجنة بيروت» التي يرأسها مدير الداخلية العام (تسمية ملغاة وموقع غير موجود) وينوب عنه المدعي العام المركزي (تسمية خاطئة)؟
وفي سياق نقدنا البنّاء، نذكّر بالفشل الذريع في معالجة ذوي الأوضاع الخاصة من السجناء، مكتفين بلفت الانتباه إلى الفوضى وإلى السوء الحاصل في موضوع الأحداث المنحرفين، وهو عالم يحتاج إلى فضاء خاص به من المحققين إلى القضاة إلى المحاكم إلى الأماكن إلى المعالجين والمرشدين النفسيين والاجتماعيين ...الخ، الأمر الذي يستوجب استحداث مديرية خاصة به. بالطبع، لا نريد للقارئ الظن بأن المعالجات مستحيلة، كما لا نرجو أن يستمر المعنيون بالمعالجات الفورية التي قد تثمر نتائج ظرفية أو موسمية. فاستبدال ضباط سجن رومية وعناصره ورتبائه، على سبيل المثال، لم يغير في واقع السجون المزري لأننا نعتقد أن الخلل بنيوي وليس في الأشخاص، بدليل أن الفاسد المنقول من سجن رومية نقل فساده معه إلى موقع آخر، وأن الصالح بين المنقولين أصابه من الأذى النفسي والمعنوي غير المقصود، ما لا حدود له.
جلّ ما نطلبه أن يصار إلى ترتيب الأفكار وتبويب الأولويات واعتماد الخطط والبرامج العلمية المنهجية، في هذا الملف وفي غيره من ملفات الأمن الاجتماعي بدءاً من ازدياد حدة الشعور بعدم الأمان ومن فوبيا الازدحام ومشاكل المرور، مروراً بالمخدرات والفساد والاتجار بالبشر وغسيل الأموال، وانتهاءً بالأفعال الارهابية... وعلينا جميعاً الالتفات إلى أن «أهمية الساعة» تكمن في انتظامها ودقتها لا في سرعتها أو بطئها.
* باحث في العلوم الجنائية والعقابية