تتحوّل غرف القمار في كازينو لبنان، عشية أفول السنة وولادة عام جديد إلى مختبر «حظّ» للناس. لكن وإن كان الصيت للرجال في ارتياد أماكن كهذه، إلا أن من اللافت تزايد عدد النساء اللواتي يردن «تجربة» حظّهنّ، أو ما يرمز إليه: الربح. نساء من كل الفئات والطبقات، الغنية منها والفقيرة، بل إن بعضهنّ يأخذن معهنّ... الخادمة، التي تزجي الوقت هي الأخرى في انتظار المدام، لاعبة على «آلات» أخرى رخيصة
ريتا بولس شهوان
إنها لاعبة غير عادية. تجلس إلى آلة البوكر في صالة تحاول تقليد قاعات المقامرة في لاس فيغاس. بين أصابعها، تحترق سيجارة، كأن صاحبتها الشاخصة بعينيها إلى شاشة الآلة أمامها، نسيتها وهي تتأمل ما يظهر عليها من أوراق، فيما وضعت رجليها الممدودتين بارتياح... على الآلة نفسها، لكأنها تشعر أنها في بيتها، لكأنها كل يوم هنا. هكذا، بدت لمن يراها، تراقب بعين الصقر تطابق الصور التي تظهر على شاشة اللعبة، لعل التطابق التام يحصل، فتربح رهانها.
في القاعة، مزيج من الأصوات يكاد يكوّن نغمة خاصة بكازينو لبنان: خليط من «طقطقة الفيش» ورنين الآلات التي تشير إلى أن أحدهم قد ربح، أو مجرد خشخشة لدوران الدواليب المعدنية. يلفتك شعر تلك المرأة الخمسينية المتروك بدون صباغ لما بان من الشيب، عكس عادات اللبنانيات المتأنقات. يبدو أن قلب السيدة يذهب إلى مكان آخر، فشغفها بدا منصباً على آلتين: تستخدم الأولى، التي تضع عليها رجلها، وتحجز الثانية بعلبة سجائرها.
أعداد النساء التي تجدها هنا مثيرة للدهشة. في النهار، كما في الليل. نساء من كل لون وشكل وعمر. ومع أن الصيت هو للرجال، لكن بضع زيارات إلى المكان في أوقات مختلفة، يظهر لك عكس ذلك تماماً. نظرة سريعة إلى الملابس والتسريحة، وتلاحظ تعدد الطبقات الاجتماعية. أمام لعبة «الجوكر الكبير»، آلة الخمسة وعشرين ألفاً للكبسة الواحدة، صبية شقراء بحذاء زهري كأحذية ممثلات هوليوود، تلعب بتوتر بخصلة بعينها من شعرها. تنادي على أحد موظفي الكازينو وتطلب منه قهوة سكر زيادة. ليس بعيداً عنها، امرأة أخرى سمراء متمسكة بجاكيت جلدية، كل دقيقتين، تخرج مرآتها الصغيرة من حقيبتها.
لعبة الضفدعة هي اللعبة «الأفقر» التي تقبل عليها العاملات الأجنبيات
المرآة لا تكذب، تبرّجها ما زال جميلاً! ليلتهم من «ليالي الأنس» في الكازينو. آلة «الجوكر» في كل مكان، حتى في «قسم الفقراء». هنا يمكن اللعب بفيش من فئة 250 ليرة. على مبعدة، سيدة بملابس شبه بالية، ترتدي قميصاً مخملياً زالت معظم الألوان عند الأكمام، وحذاء رثّ. هي أيضاً تريد أن تجرب حظّها. والكازينو ليس حكراً على اللبنانيات. نقترب من إحدى اللاعبات ونسألها عن السبب الذي يدفعها إلى اللعب، يأتي جوابها سوريالياً: «عم بلعب لأني عراقية»! تحاول أن تفهم، لكنها ترفض إعطاء أي تفسير، أو زيادة أي كلمة، لشكّها ربما في الدافع إلى السؤال. يقترب منها رجل مصري، يبدو أنه يعلمها أصول لعبة البوكر، بعدما انتهى لتوّه من تلقين عاملة أجنبية، جاءت مع «المدام»، درساً في لعبة الضفدعة، اللعبة «الأفقر»، التي تقبل عليها العاملات الأجنبيات اللواتي لا يمكنهنّ إنفاق أكثر من ألفي ليرة. يبدو الرجل «مستفيداً» من موقعه في لعبة الأستاذ والتلميذة. يدور على الأجنبيات وبعض الفتيات اللبنانيات اليانعات، مقدماً يد العون، وعند الربح، يقتصّ منهن نصف المبلغ. أعمار اللاعبين واللاعبات غير محددة، لا يسأل عنها رجال الأمن، كما لا يسألون أحداً عن هويته أو جنسيته.. ممنوع عليهم النطق إلا بما هو ضروري. للأسئلة جواب واحد عنده: «ما بعرف»! هل يزوركم رجال الأمن العام، ليتحققوا من أوراق إقامة زواركم الأجانب؟ ما بعرف. هل تزوركم وزارة المال؟ ما بعرف. طبعاً، لا يعرف شيئاً كذلك عن ذاك المرابي الجالس في المقهى داخل غرفة القمار، يراقب السيدات، لا الرجال. يقترب من سيدة ترتدي معطفاً من الفرو، يسألها عن مزاجها اليوم: مزاجها اليوم خاسر! تتجه عيناه إلى سوار في يدها، ويضع يده في جيبه، كأنما يريد أن يظهر استعداده لدفع «كاش» قد تكون هي تحتاج إليه مقابل السوار. طبعاً «سيشتريه» دون سعره الحقيقي، وهي ستقبل، علّ الآلة التي بلعت أموالها تعيد إليها جزءاً مما خسرته اليوم، أو ربما، والغريق «يتعلّق بقشّة»، كل المبلغ. بحركة سريعة تمرر السوار إلى المرابي. يتركها لبعض الوقت، ليعود مع «فيش» جديد. في الواقع، إن المرابي أو مهما كانت وظيفته، هو من يقف في الصف للاستحصال على «الفيش»، فترتاح هي من الصفّ الطويل، الذي قد يحتاج إلى أكثر من أربعين دقيقة. يبدو المرابي قوياً هنا.
علاقاته العامة تبدو من حركته المرتاحة داخل الصالة وثيقة. تعود السيدة إلى لعبتها. هذه المرة تخلع معطفها، وتكاد تلتصق بالـ«سلوت ماشين»، في إشارة واضحة إلى التركيز. «مدام، المستر عم بدق»! تتوقف السيدة عن اللعب لسماع ما قالته «خادمتها»، هي التي كانت تتعلم لعبة الضفادع مع المصري. للاتصال كلمته الفاعلة.
تترك الآلة وما فيها من مال، من دون أن تنسى الاحتفاظ بـ«الفيش» على الأرجح لجولة مقبلة.
عند مدخل الكازينو الأساسي، تركن سيارات أجرة تابعة لشركة كازينو لبنان، تقلّ الخارجين من المسرح أو غرفة القمار.
«تأخّرت المسرحية اليوم ستّنا»، يسأل أحد السائقين بنفاق متجاهلاً المرأة التي أعطت المرابي سوارها الذهبي لتوّها. يخبرنا هذا السائق، في دردشة جانبية، أن النساء عادة لا يحبذن فكرة التنقل بسيارة الأجرة الخاصة بشركة كازينو لبنان، بالرغم من عدم وجود أي إشارة دالة على أن سيارة الأجرة تعود إلى الشركة، وذلك لأسباب خاصة تتعلق بخوفهنّ المفرط من الفضيحة لو علم أحد أنهنّ «يلعبن». فغالباً ما يكون سائق الأجرة، ودائماً بحسب ما أخبرنا، مرابياً هو الآخر، وقد يفضحها مصادفة أمام راكب آخر من العائلة. أما هذه المرأة، فجريئة، وجرأتها في حجم البقشيش الذي دفعته لسائق الأجرة. محظوظ هو اليوم: بقشيشه خمسون دولاراً.