الباطون يتكاثر، يحجب الهواء، يفتك بالأخضر جاعلاً الحياة كئيبة مثله. في بعض الدول يُمنع هدم البيوت القديمة، وفي بلادنا يُشجَّع الهدّامون وتُقدَّم إليهم التسهيلات، فمن يوقف زحف «جمهورية الباطون» كي لا تطيح كل ما هو جميل؟
منهال الأمين
المنزل المقابل للبناية التي أسكن إحدى شقق طبقتها الخامسة في محلة الغبيري، والذي كان مختفياً منذ زمن طويل وراء أجمة أشجار قديمة ومهملة، نمت الأعشاب حولها من كل صوب، مكوّنة ما يشبه الجدار الأخضر، كان مصدر إزعاج طيلة الأسابيع القليلة الماضية. فقد حمّلته وعائلتي، مسؤولية تصدير تلك الحشرات المتنوعة التي كانت تغزونا ليل نهار. مردّ الاتهام عائد إلى ما تراكم في المنزل المهجور من نفايات، تُرمَى في باحته من هنا ومن هناك، كان عمال بلدية الغبيري يعمدون إلى إزالتها بين الحين والآخر، ولكنها سرعان ما تعاود تراكمها من جديد. ولا بأس، حتى لا نثير الاشمئزاز، أن نتحدث عن حشرة «أعجوبة» دهمتنا ذات مساء. بدايةً لم نرها، سمعنا صريراً ورفرفة أجنحة، ولم نصدّق أعيننا حين رأيناها «تنطح» حرفياً، سقف الغرفة كأنها تحاول اختراقه! كانت تشبه ما يسمّى اليعسوب، لكنها حتماً من فصيلة العمالقة. ولا أخفيكم أن العائلة هربت من الغرفة، خوفاً من أن يصطدم هذا المخلوق العجيب بي، كما كان يحاول مع السقف، لذت بالفرار.
إذاً، استيقظنا منذ أسبوع على وقع أصوات المعاول و«المهدّات» (معول ضخم يُستخدم لهدّ الجدران)، أطللت من علياء نافذتي في الطبقة الخامسة لأرى تلك الأدوات بين أيدي عمّال نشطين، يقفون فوق سطح البيت القديم منكبّين منذ الصباح الباكر على ثقب سطح «جارنا المسكين». توجّست خيفةً، في البداية من أن بناية قد تكون تستعدّ للارتفاع مكان البيت المُحال على التقاعد، الأمر الذي سيمنع عنا بعض الهواء الذي يهبّ عليلاً وبارداً من الشمال، على الرغم من أنه يترافق مع أصوات الدراجات النارية المزعجة التي تخرق جدار الصوت لدى مرورها ليل نهار على أوتوستراد المطار، ذهاباً وإياباً. لكن تقدم العمل بعد أيام، أي بعدما نجح العمال في هدم السطح، بانت خارطة البيت الداخلية، وإذا به بيت أثري، مشيّد في منتصف القرن الماضي على ما يبدو، بُني على الطراز اللبناني، وقد ظهرت قناطره الثلاثية التي اشتهرت بها بيوت لبنان مطلع القرن الماضي، والعقد المصقولة كالقدود، وتساقطت الحجارة الصخرية المنحوتة عن يمين وعن شمال، فيما بقيت الجدران المصبوغة باللون الأزرق ـــــ وقد كان شائعاً في ما مضى ـــــ عارية. توقفت الأعمال أياماً عدة. وبقيتُ أطلّ من فوق على ما بقي من البيت العاري، المشرّع، المتروك وحده هكذا. كأنَّ من فعل هذا أراد أن يبعث في الناظر الحسرة، وأن يفسح له المجال للوقوف على أطلال بيت كان يوماً جميلاً، ولو لبرهة، قبل إنجاز فعل الهدم بالكامل. وبالفعل، بعد أيام من ترك المنزل مستباحاً على هذه الحال، حضرت الجرافات لتطبق الجدران بعضها على بعض، وهرع هواة جمع الأشياء القديمة لتحميل تلك الحجارة المنحوتة باليد، وهي لا تدري إلى أي أرض تؤول، ولعلّها لن تخطئ واحداً من تلك البيوت التي تُشيّد حالياً في القرى على الطراز القديم نفسه، وتعتمد أساساً على الحجارة الصخرية، من دون أن يكون للباطون حظ وافر في تكوينها. والمفارقة أن هذه البيوت تُنكَب وتُهدم هنا، وتُشيّد بحجارتها بيوت عامرة في مختلف الأراضي اللبنانية! فلمَ لا تبقى؟
ولكن الأهم هو أنني حِرْتُ جواباً عن المسؤول عن توسّع جمهورية الباطون المسلّح، من خلال التمدّد المتوحّش والعشوائي للبنايات التي تأكل كل مساحة فارغة، حتى لو كانت أرضاً بوراً، في العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، من دون حسيب ولا رقيب. المصيبة أن مواصفات معظمها رديئة فنياً، وخصوصاً من الداخل، وفي كل ما يُطلق عليه أعمال تشطيب، كل الجهد يبذل فقط في «الأمبلاج» لجذب الزبائن الباحثين عن «تميّز» ما. أما أسعارها؟ فلا شك أنها لا تتوافر في أيدي الكادحين، مع الارتفاع الجنوني في أسعار العقارات، و«استشراس» المتاجرين بها والمقاولين، وجلّهم من «الحجّاج» والزاهدين والركّع السّجود، الذين يلعنون الجشع والطمع ليل نهار. فمنشئوها ليسوا معنيّين بشؤون التنظيم المدني إلا بالتراجعات «القانونية». فلا تسألهم عن مواقف السيارات، التي تتحول بقدرة قادر إلى مكاتب أو شقق لحلّ أزمة السكن، على طريقة عبد المعطي، ناظر مدرسة المشاغبين، أو ظريفة في «المعلمة والأستاذ». ولا يُسألون أيضاً عن ملاعب الصغار، وشروط السلامة العامة والحفاظ على البيئة، والاحتياطات الضرورية في فترة الإنشاء، وأشباه الحمّامات والمطابخ والشرفات، والغرف، أو بالأحرى، علب السردين، التي تحمل الناس على دفع الغالي والنفيس للفوز بواحدة منها، تؤويهم بين جدرانها، وهي مثال ساطع على مواصفات «السوبر دولوكس» بالماركة المسجلة «بالشتا غريق وبالصيف حريق».
هناك العديد من المنازل القديمة الصامدة في المنطقة المحيطة بهذا المنزل «غير المرحوم من أحد». في الغبيري تحديداً، وفي الضاحية الجنوبية عموماً: في حارة حريك والمريجة والتحويطة والليلكي وبرج البراجنة، حتى إن الأخيرة ما زالت تحتفظ بطابع الضيعة في كثير من جوانبها العمرانية والاجتماعية، حيث تنتشر أشجار النخيل والبيوت التراثية.
في المحصّلة، فإن بيتاً قديماً آخر أطاحه الجشع، ويُخشى أن تؤول أرضه إلى أحد أولئك المتعطّشين إلى قطعة أرض ليشيد عليها «تحفة» باطونية جديدة. وإذا استمر هذا التمدّد المبرّر بحسابات السوق والتوسّع السكاني، فإننا مقبلون على مناطق سكنية يكثر فيها الناس، وتتقلّص فيها الحياة، فأيّ حياة وأيّ ناس.


«وقعت الفاس بالراس»

«مأساة» منزل آل الخنسا كانت مدار حديث مع رئيس بلدية الغبيري محمد سعيد الخنسا، الذي للمناسبة يعود المنزل إلى عمّه شقيق والده، وأفادنا حينها أن البلدية عازمة على شراء المنزل للاستفادة منه بشكل أو بآخر، كإنشاء موقف سيارات للحد من أزمة المواقف التي تعانيها المنطقة، التي يقع فيها أكبر سوق لتجارة قطع السيارات في لبنان، أو ربما حديقة عامة، أو مدينة ملاهٍ للأطفال.
ولكن للأسف «وقعت الفاس بالراس» كما قال، وبيعَ المنزل لـ«صاحب النصيب»، وذهبت التمنيات هباءً منثوراً.