سهام بن سدرين*سيّدي الرئيس،
لقد أسأتم حكم تونس طيلة أكثر من عشرين سنة، وها أنتم تمنحون أنفسكم خمس سنوات أخرى لممارسة سلطتكم المطلقة على حياتنا ومستقبلنا. لقد اتسم حكمكم في عيون التونسيّين بالظلم، والاعتداء على كرامة المواطنين، فتفشّت المحسوبية وعمّ الفساد، وأهدرت الموارد البشريّة والمادّيّة لبلادنا. إنّ تونس اليوم كسفينة يجرفها التيار بدون ربّان، ولا نعرف أيّ قوى خفيّة تسيّرها في ظلّ غياب تام وتهميش لدور الدولة.
لقد أسقطتم الميزة الحكيمة التي كانت تميز تونس وتجعل منها دولة مزدهرة ومتوازنة والتي جوهرها «منع أن يزداد الأقوياء قوّة والفقراء بؤساً»، وذلك برعاية طبقة متوسّطة واسعة، فارتكز نظامكم على شعار «استهلك وأغلق فمك». وسمح بكلّ التجاوزات، وأغرقت شرائح واسعة من الطبقة المتوسّطة في الخصاصة، وشُجّع الإثراء الفاحش وغير المشروع لبعض المستفيدين من الرشوة السياسية. ولم تكن انتفاضة الحوض المنجمي إلا تعبيراً صحيّاً على التردي الذي طال كل القطاعات الاقتصاديّة.
وقد شوّهت هذه السياسة المدمّرة كل المكتسبات التي كانت فخراً للتونسيّين وأضرّت بها إضراراً كبيراً.
فجامعاتنا ومدارسنا التي كانت تنافس المؤسّسات الأوروبيّة تهاوت بفعل تدنّي المستوى العلمي وتهميش الكفاءات غير الموالية لسياستكم.
وتهاوت المستشفيات والمؤسسات الصحية وأصبحت أنقاضاً بسبب إحباط الإطارات والكوادر الجيّدة وفقدانهم الأمل.
أمّا مؤسّساتنا الدستوريّة فقد امتُهِنت والعدالة غدت مكاناً تباع فيه الحقوق وتشترى، بعدما أصبحت تابعة للأمن السياسي الذي يملي عليها «التعليمات». وقد أصبح القضاة الشرفاء الصامدون في وجه التردّي عرضة للتهميش والعقاب. وأما البرلمان المعيّن من أجهزتكم على أثر مهزلة انتخابيّة، فقد تحوّل إلى آلة لإنتاج القوانين المفرغة من كل معاني الحق.
وأمّا صحافتنا فقد غرقت تحت المفعول المزدوج للرقابة ولتلك «النفايات المكتوبة» المموّلة من المال العام والتي تلوّث الفضاء الإعلامي وتفسد أخلاقه. وأصبحت الكفاءات تفرّ من البلاد كما لو أنها محكومة بقانون الغاب.
إنّ تونس، التي تملك مقوّمات تخوّلها احتلال موقع طيّب بين الدول المتقدّمة، تقبع اليوم رهينة مشدودة الوثاق لدى العصابات التي تحيط بكم. وبوليسكم بالمرصاد يصطاد كل من يتحرّك، ويعنّف، ويشتم، ويوقف، ويرهب كلّ الأصوات التي تحاول أن تحذّر سلميّاً من الانحراف.
ويبدو أنّكم وهنتم وأنّ الحرب على خلافتكم قد اشتعل فتيلها في «السرايا» من حولكم، دون أن يكون للمواطنين التونسيّين أيّ فكرة عن كيفيّة انتقال السلطة، أو إن كانت قوانين الجمهوريّة سيقع احترامها. فزوجتكم التي صعدت إلى مشهدنا السياسي دون صفة، تطمح اليوم لإدارة بلادنا، وهو لعمري أمر مفزع، ليس لرفضنا أن تسيّر شؤوننا امرأة ــــ فلدينا في تونس نساء من طراز عال وذوات مصداقيّة وأنا أفخر بأن أرى إحداهنّ تحكم البلاد يوماً ما ــــ لكنّنا لا يمكن أن نطمئن لقدرة زوجتكم على حماية الثروة العامّة من نهب أهلها. فشعورها بالمصلحة العامة وتقيّدها بالقانون، يبدو مفقوداً، وأشكّ بأن هناك كثيراً من التونسيّين يرغبون بها حاكمة. كما أخشى أن يسبب طموحها في السلطة إلى تعريض تونسنا المسالمة لسلسلة من الهزّات العنيفة التي لا يمكن أحداً أن يتنبّأ بمآلها.
سيّدي الرئيس،
لا أهنّئك بفوزك بدورة خامسة؛ لا شكّ بأنّ أجهزتك قد أخبرتك بالأمر، فهذه المسخرة الانتخابيّة لم تقنع أحداً، ولا حتّى عناصر التجمّع المنهكة والعاجزة عن الابتكار. وبينما تمجدّك لافتاتهم مثل الإله، تنفر قلوبهم منك. وكما ترون سيّدي، فإنّ دورة خامسة ليست مقنعة حقيقة!
يقول كورناي: «حين تفوز بدون أخطار، تتوّج بدون أمجاد». لم تكن هناك منافسة ولا حَكَم ولا تصويت احْتُرمت فيه الإرادة الشعبيّة، على عكس ما قلتموه في خطاب القسم. بل كلّ ما هناك هو مسرحيّة خالية من الإبداع أخرجها شهود زور.
لقد ختمتم حملتكم بخطاب عماده التحذيرات والتهديدات الموجّهة ضدّ من تجرّأوا على التشكيك في نزاهة العمليّة الانتخابيّة. كما أعدتم التهديدات نفسها في خطاب القسم حيث انتزعتم فيه الوطنيّة والشرف من كلّ من لم يوالكم ويصطفّ خلفكم. إنّكم، بتخلّيكم عن واجب التحفّظ، اخترتم أن تظهروا للعيان كرئيس لشقّ معيّن. وأعلنتم الحرب على كل التونسيّين الذين يلومونكم على إساءة حكم البلاد التونسية التي استنزفتم ثرواتها ورهنتم مستقبلها بعدما أخرستم ولجمتم إعلامها ودجّنتم قضاءها.
سيّدي الرئيس،
هؤلاء التونسيّون لا يقبلون دروساً في الوطنيّة من عصابات تتطفّل على الدولة وإدارتها، ناشرة عادات سياسيّة تجلب لنا العار ولا تليق بحضارتنا. هؤلاء التونسيّون صمدوا خلال 22 سنة من حكمكم المطلق في وجه الهجمات الجبانة لبوليسكم السياسي، والعقاب الجماعي، والتجويع الذي فرضتموه عليهم، حارمين إيّاهم من حقوقهم الأساسيّة في حياة كريمة وفي سكن وشغل وحرّيّة تنقّل. لقد فعلتم كلّ هذا وأنتم تعلنون احترامكم لحقوق الإنسان وتصادقون على المعاهدات الدوليّة التي تحميها.
لكنّكم لم تنجحوا في إلزامهم الصمت. لقد صمدوا في وجه جرّافاتكم، ولقوا من المجتمعات المدنيّة الجزائريّة والمغربيّة، وعلى نحو أوسع العربيّة والعالميّة، سنداً لهم كان درعاً حقيقيّة تحميهم وتقيهم هجماتكم. وهو الأمر الذي لم يرق لكم فوصفتموه بـ«الاستقواء بالخارج»! لقد أعلنتم أنّ «الوطنيّ الحقيقي هو الذي لا ينتقل بالخلاف مع بلاده إلى الخارج». إنّ خلافنا ليس مع بلادنا التي نحبّها إلى درجة أن نواجه جهازكم القمعيّ من أجل الدفاع عنها، بل هو معكم ومع نظامكم الذي يخنق تونس ويرهن مستقبلها.
أخبرني متى قبلتم بالحوار مع معارضيكم؟ إنّ وسيلة الحوار الوحيدة التي أدمنتم استعمالها هي هراوة بوليسكم والعنف اللفظيّ لأقلام أزلامكم. ولم تكتفوا بحرمان كل المنظّمات المستقلّة من حقها في الوجود القانوني، بل حتى الجمعيّات المهنيّة التي جرؤت على إظهار بوادر استقلاليّة تعرّضت لانقلابات ولوحق أعضاء هيئاتها الشرعيّة، كما هي الحال مع قضاتنا ومع صحافيّينا. ومنعتم الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أعرق منظّمات حقوق الإنسان، من القيام بمهمّتها مراقباً حريصاً على احترام حقوق الإنسان.
سيّدي، لطالما نظرتم إلى الالتزام بالمواطنة الحقة على أنه سلوك عدائيّ، واعتبرتم واجب المراقبة هذا تهديداً لديمومة حكمكم المحاط بالتعتيم الكلّي. ولا شكّ بأنّكم على حقّ، فنحن ننظر لنظامكم على أنه عدوّ لبلادنا.
سيّدي الرئيس،
ألم تصنّفوا قبل ذلك هؤلاء الأجانب الذين تتهموننا بمحاولة إدخالهم إلى «قلعتكم» وتتهمونهم بتهديد «سيادتكم»، ضمن خانة الأصدقاء؟ أليست فرنسا التي ترفضون «تدخلها» اليوم، هي الداعم الرئيسيّ لنظامكم؟ أليست القوّة الأوروبية الرئيسيّة التي «تحميكم» من واجب المحاسبة على إخلالاتكم بتعهّداتكم في إطار اتفاقيّات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ذاك الذي تطالبون اليوم بالحصول على موقع متقدّم فيه؟ هل تتنكّرون اليوم لتلك الاتفاقيّات التي تتعهّدون فيها بدعم دولة القانون والديموقراطيّة في تونس والتي بموجبها تقبلون بتقييم دوريّ لحالة الديموقراطيّة عندكم؟ وحين أعلن الرئيس الفرنسي، على نحو مخالف للحقائق الجليّة، أنّ «مساحة الحرّيّات تتطوّر» في تونس، لم تصرخوا لحظتها ضدّ «التدخّل»! وصرختم لما صرّح وزير خارجيّة الدولة نفسها بـ«خيبة أمله تجاه اعتقالات الصحافيّين في تونس»، معتبراً إيّاها «غير ضروريّة»!
وحين أفاض إريك راوول (الذي اعتادت وكالة الاتصال الخارجي استدعاءه لقضاء العطل في القصور التونسية) في المدائح لسياستكم الرشيدة، لم تعتبروه متدخّلاً في الشؤون الداخليّة. لكن فلورانس بوجيه التي تقوم بواجبها الصحافي بكلّ موضوعيّة اعتبرت مصابة بحنين للعهد الاستعماريّ. وهكذا تصبح المدائح مرحّباً بها فيما يغدو النقد محرّماً!
سيّدي الرئيس،
لا أهنّئكم، لقد خسرتم المعركة الإعلاميّة وأسندتم الانتصار إلى توفيق بن بريك الذي استحقّه. لقد اعتقدتم أنّ صوركم العملاقة التي غزت جدراننا والمقالات المدفوعة الأجر لدى سماسرة القلم في الخارج كفيلة بإكسابكم المعركة. تلك هي نظرتكم لانتخاباتكم، مجرّد معركة إعلاميّة! لكنّ الحقيقة تصدح دائماً بصوتها كما ترون! لقد افتتحتم دورتكم الخامسة بالتنكيل بصديقي توفيق بن بريك ورميه ظلماً في السجن. ولا أحد يصدّق هذا الإخراج القضائي ــــ البوليسي غير المحكم الذي تدّعي فيه ممثّلة رديئة الأداء أنها تعرّضت للاعتداء من توفيق أمام مدرسة ابتدائيّة ليس لها فيها أبناء تجلبهم منها.
ولو كانت مسألة العنف ضدّ المرأة تشغلكم لهذا الحدّ، لبادرتم بمنع أعوان بوليسكم من الاعتداء على المدافعات عن حقوق الإنسان، وليتكم تركتم قضاءكم يلاحق المجرمين ويصدر أحكامه في العديد من الشكايات المرفوعة ضدّهم والتي حُفظت.

لا أهنّئك بفوزك بدورة خامسة؛ لا شكّ أنّ أجهزتك قد أخبرتك بالأمر، فهذه المسخرة الانتخابيّة لم تقنع أحدا
ولا أحد يجهل أنّ كتابات هذا الشاعر، التي طالما أزعجتكم، هي التي سببت الانتقام منه ورميه في السجن. هذا النوع من المقالات يجري على أسنّة الأقلام في البلدان الديموقراطيّة ولا يؤدّي بأصحابه إلى السّجن؛ وكما قال ديغول: «لا يجوز رمي فولتير في السّجن» يا سيّدي!
إنّكم بتصرّفكم هذا تفضحون هشاشة نظامكم المتخفّية خلف قناع من الورق الشاحب يعاد تزويقه كلّ يوم من وكالة «البروباغاندا» الخاصّة بكم، وكالة الاتصال الخارجي، من خلال تبذير المليارات سنويّاً، من أجل إنتاج مشهد مصطنع عبر السفاسف والأكاذيب عن معجزة اقتصادية وسياسيّة لا أحد يصدّقها غيركم.
سيّدي الرئيس،
لقد صوّت الشباب لمعجزتكم عبر الفرار من البلاد آلافاً مؤلّفة. آخرهم أولئك الرياضيّون الأربعة الذين فرّوا من المنتخب الوطني لاجئين إلى كندا ليصبح رقم الرياضيّين من المستوى الرفيع الفارّين من تونس 140 رياضياً، دون الحديث عن عشرات الآلاف الذين عبروا المتوسّط في قوارب الموت مخاطرين بحياتهم فارّين من غد قاتم. سيّدي، إنّ نجاحاً اقتصاديّاً حقيقيّاً يستقطب الشباب ولا يدفعهم للفرار.
سيّدي الرئيس،
لقد أطلقتم كلاب حراستكم على كلّ الذين يمثّلون شرف هذه البلاد. فأزلامكم من أصحاب الأقلام المأجورة بواسطة المال العام يشتمون ويحبّرون أعمدة السبّ والتشويه بعبارات تسيء لشرف الصحافة التونسية ويحطّون من أخلاقيّاتها. ولم نبلغ يوماً هذا المستوى الدنيء في النزول بالفضاء العمومي الذي تحتكرونه أنتم والمقرّبون منكم.
إنّ المصداقية هي الميزة الأولى لكلّ دولة تحترم نفسها. لكن تحوّل في عهدكم كذب الدولة إلى رياضة وطنيّة يمارسها عدد من وزرائكم ومسؤوليكم.
لقد أصبح جلادو القلم العاملون في جرائدكم أساتذة لا يشقّ لهم غبار في مجال التدليس والتزييف. وها هم هؤلاء يتّهموننا بأننا جواسيس لإسرائيل يفتّش عنّا الفلسطينيون واللّبنانيّون. فيما شرفنا كمدافعين عن القيم الكونيّة للحرّية والحق سليم ليس به عطب. والفلسطينيّون واللّبنانيّون، الذين عرفونا واختبروا تمسّكنا بقضاياهم العادلة في الميدان وتحت القنابل الإسرائيليّة، يعرفون ذلك مثلكم تماماً. إنّ هذه الأساليب التي تستغلّون من خلالها قضيّة عادلة من أجل تلويث شرف المواطنين، تعتبر غير أخلاقيّة وتشهد بلامبالاتكم لتلك القضيّة. ولئن حاول أحد أزلامكم أن يستهدف أرواحنا، فإنّ العالم بأجمعه يعلم أنّكم وحدكم تتحمّلون مسؤولية ذلك.
سيّدي الرئيس، إرحل
لا ينتظر منكم التونسيّون شيئاً غير رحيلكم ومعكم تلك العصابات التي تحيط بكم.
إنني أهيب بروح المواطنة لدى المسؤولين السياسيّين الشرفاء؛
وأهيب بروح المواطنة لدى الكوادر الشرفاء في التجمّع الدستوري الديموقراطي؛
وأهيب بروح المواطنة لدى الكوادر الشرفاء صلب إدارتنا؛ وأهيب بروح المواطنة لدى الكوادر الشرفاء في جهازي الشرطة والجيش؛
وأهيب بروح المواطنة لدى المناضلين في أحزاب المعارضة الحققيقية؛ وأهيب بروح المواطنة لدى النّشطاء الشجعان للمجتمع المدني، نساءً ورجالاً، نقابيّين، فنّانين، صحافيّين، مدافعين عن حقوق الإنسان، لكلّ الديموقراطيّين وكلّ من يهمّهم مستقبل بلادنا؛ فلننقذ بلادنا، فلننقذ تونس قبل أن يفوت الأوان.
(نشر هذا المقال بالفرنسية
في صحيفة le matin الجزائرية)
* معارضة تونسية