على هامش إحياء مراسم عاشوراء، ثمة مظاهر لا علاقة لها بالمناسبة. مظاهر اجتماعية، كأن يتنافس هذا مع ذاك مَن يدفع منهما أكثر «ثمناً» لما يوزّعه في المجلس، أو «بدل أتعاب» لقارئ السيرة الحسينيّة... وما إلى ذلك، والنتيجة لعبة تباهٍ تجعل الفقراء أو الذين لا ينساقون إلى هذه المظاهر يسمعون ويرون ويبكون لأسباب أخرى غير المناسبة
صور ــ آمال خليل
تتوافد نساء متّشحات بسواد الحداد إلى بيت إحداهنّ لحضور مجلس عزاء حسيني عن «روح أبي عبد الله الحسين»، كما درجت العادة في مثل هذه الأيام المصادفة للعاشر من شهر محرم وفق التقويم الهجري، ذكرى مقتل ثالث أئمة الشيعة الإمام الحسين بن علي وأهله وأصحابه على أيدي بني أميّة في مدينة كربلاء العراقية. قبل البدء بقراءة المجلس العاشورائي، تشرع القارئة بتجويد آيات قرآنية، ثم تنوح بأبيات رثاء الحسين وأصحابه. لكن مهمة القارئة لا تنتهي هنا. فهي تستطرد بنوع من الوعظ في أركان الدين وسلوكياته، مختتمة العزاء برواية فصول من معركة كربلاء بطريقة اشتهرت بدراميتها المؤثرة. ينتهي المجلس فتمسح النساء دموعهنّ، قبل أن ينصرفن إلى مجلس آخر، ذلك أنه «كلما زاد عدد المجالس التي نشارك في إحيائها وذرف الدموع، زاد الأجر عند الله»، حسب ما تقول الحاجة زينب، إحدى اللواتي يزجين أيام عاشوراء متنقلات بين البيوت أو الحسينيات سعياً للمشاركة في أكبر قدر من المجالس.
لكن متى بدأت ظاهرة إقامة مجالس عاشوراء؟ ومن هنّ النسوة اللواتي يروين السيرة الحسينية؟ وهل يحق لهنّ الوعظ في الدين؟ هل يتقاضين أجراً؟ وكم يبلغ؟ وما هي معاييره؟ يؤكد رئيس هيئة علماء صور الشيخ علي ياسين أنه «ليس هناك كتاب يؤرّخ تاريخ المجالس. إلا أن المراجع الدينية تجمع استناداً إلى الروايات وأحاديث الأئمة، بأن إحياء واقعة كربلاء بدأ مباشرة بعد حدوثها عبر السيدة زينب أخت الإمام الحسين التي شهدت الواقعة وابنه الإمام زين العابدين. واستمر الائمة الثمانية الذين خلفوه بإحياء الذكرى كل عام، بتلاوة الواقعة في بيوتهم قبل أن يقتدي بهم الموالون الذين أوروثها بعضهم لبعض لكي تبقى الذكرى حية عبر التاريخ».
أما عن نشوء ظاهرة قرّاء المجالس، فتشير بعض المراجع الدينية إلى أن الإمام الثامن، علي الرضا، «كان يعقد العزاء في بيته حينما انبرى الشاعر دعبل الخزاعي إلى تلاوة أبيات رثاء ونعي في الحسين وأصحابه. ولما انتهى جال الإمام على الحاضرين وجمع له النقود مكافأة له». أما حديثاً، فيشير ياسين إلى أن «المجلس بشكله الحالي انتشر بداية في أفغانستان، حيث كان رجل يدعى روزحون يتلو في الجموع المصاب، مستنداً إلى الروايات التاريخية والأحاديث النبوية»، لافتاً إلى أن الظاهرة «لم تقتصر على الشيعة في أفغانستان وباكستان، بل تعدّت إلى أهل السنّة». إلا أنه «ما من مدرسة لإعداد قرّاء المجالس أو أسس شرعية ثابتة»، كما يقول ياسين، معوّلاً «على الجهد الشخصي الذي يبذله القرّاء في تثقيف أنفسهم وتدريبها على فنّ الخطابة واللسان وتقويم اللغة العربية السليمة وحفظ السيرة الحسينية وعدد كبير من أبيات الرثاء والآيات القرآنية».
يقرّ الكثيرون بالإقبال الشديد على امتهان قراءة مجالس العزاء من الرجال والنساء خلال السنوات الأخيرة. أجيال تسلّم «أمانة» المجالس لأجيال؛ ففيما اعتزلت الحاجة حمدة غندور (75 عاماً)، من بلدة معركة، القراءة بسبب كبر سنها وضعف بصرها، تشق نرجس عسيلي (12 عاماً) طريقها لتتخذ لها مكاناً بين القارئات في بلدتها السكسكية والجوار.
ازدحام الساحة العاشورائية فتح الباب أمام استحداث مظاهر جديدة، أبرزها الأجر الذي يتقاضاه القارئ. من الناحية الشرعية، يؤكد ياسين أن «تقاضي الأجر ليس محرّماً. فالقارئ يبذل جهداً طوال السنة في التحضير للمجلس وتلاوته، منتظراً هذه المناسبة لكي يتكسّب منها». لكنه في الوقت ذاته لا يحبذ «اشتراط قيمة الأجر مسبقاً»، ويقرّ «بالثروات الطائلة التي جمعها البعض من مجالس الحسين».
في «موسم» عاشوراء، يتناقل الناس أرقاماً قد يكون مبالغاً فيها أحياناً، كألف دولار، أجراً عن المجلس ليوم واحد، أو 15 ألفاً للأيام العشرة العاشورائية، أو حتى 30 ألفاً. عبارة «لكل شيء سعره»، ترددت على مسامع جميلة وهبي لدى بحثها عن قارئة أو قارئ لإقامة مجلس حسيني في بيتها. إذ إن عوامل مختلفة تحدد أجر القرّاء، منها جمال الصوت، والإجادة في التلاوة وسعة الثقافة الشرعية، وطول الباع في هذا المجال. أما إذا كان القارئ عراقياً، على سبيل المثال، فالرقم يتضاعف. كما تم لفت نظر جميلة إلى أن السعر يختلف بين عاشوراء وباقي أيام السنة حيث ترتفع الأسعار في مثل هذه الأيام بسبب ارتفاع وتيرة الطلب والضغط على القرّاء.
تعدّ القارئة فاطمة ملاح (36 عاماً) من جيل القارئات المخضرمات في الجنوب حيث بدأت بالمهنة مذ كانت في الرابعة عشرة من عمرها. «صيت الغنى» يشاع عنها بسبب ما يعرف عن جودة أدائها وصوتها، ما يؤدي إلى إقبال البعض، وإحجام البعض الآخر لاعتقادهم بأن «الجودة ترفع أجرها». لكن سيارتها المتواضعة تشير إلى عكس ذلك. فالقارئة ملاح تنتقد أولئك الذين «شوّهوا مناسبة عاشوراء، وخصوصاً من يشترط الأجر مسبقاً أو أولئك الذين يقرأون المجلس مرة ويحيون حفلات غنائية». فقرّاء المجالس، في رأيها، يجب أن يتفرغوا لذلك حرصاً على مهابة المناسبة. لكنها في المقابل، تنتقد «من يبخس قيمة القارئة، كأن يعطيها أجراً زهيداً، أو لا يهتم بالضيافة عن روح الحسين إذا كان في استطاعته بذل أكثر».
من جهته، يسخر القارئ الناشئ علي حيدر من اتجاه بعض القرّاء «للمبالغة في رواية واقعة كربلاء. كأن يزيد من أعداد الكفار الذين قتلهم الحسين وأصحابه، أو يبتكر معجزات وأحاديث لكي يؤثر في المستمعين ويستدرّ بكاءهم»، متناسياً أن موقعة كربلاء هي واقعة تاريخية موثقة، لا تؤدي المبالغة إلا إلى التشكيك بصدقية القارئ. ويتذكر للمناسبة شيخ القارئين الوائلي الذي «قارن بين الوقت الذي يستلزمه ذبح 12 ألف دجاجة (نحو أربعة أيام) في مقابل ما أشاعه بعض المبالغين عن قتل الحسين 12 ألفاً من الأعداء في معركة لم تدم أكثر من ساعتين».


تسييس المناسبة

تنتشر دورات تدريب قرّاء المجالس لدى بعض الجهات والحوزات الدينية مثل الدورة التي تتولى تدريبها ملاح لمصلحة حركة أمل، فيما تخضع نرجس للتدرب ضمن دورات كشافة المهدي التابعة لحزب الله. معادلة «لكل حزب قرّاؤه» يعززها اختتام البعض للمجلس بالدعاء لحفظ الزعيم السياسي أو المرجع الديني أو شهداء المقاومة المعينة وأحياناً الدولة الصديقة