أحمد محسنذلك الجزء في الرأس معطلٌ عادةً. يتحرك في الميلاد فقط. أمس، جنّ الثقب الصافي في الذاكرة. راح يهذي بالطفولة، وبالأسماء الممنوعة، فقد مات أصحابها. حبُ الميلاد خطأ، وإن كان فعلاً صائباً. فاتنا كشبان، في لب المعركة، أن نشرب المطر، وأن نستعمل الذاكرة لغير الألم.
لا أعرف أن أصف ذكرى الميلاد، لكنه ليس مفرحاً تماماً. ذلك الشيء، أن تبكي مبتسماً.
لا أحد يذكر الأعوام الأولى القليلة من حياته. سيكون بشرياً خارقاً إن فعل، أو كاذباً لبقاً، مع ربطة عنق طبعاً.
المفارقة الممتعة، أن النوعين ممكنان في عالم اليوم الواقعي. في عالم الخيال، يستحي سكانه أن يفعلوها. لا يكذبون هناك، يحلمون فقط. لن تذهب السوريالية بالذاكرة إلى الفترة الجنينية، حيث الفرح الحقيقي الوحيد، حتى ولو كان المتخيّل بوهيمياً يائساً. لكن لا مانع من ذلك في الحياة الطبيعية. الحقائق القليلة المثبتة غير متفق عليها. العالم محكوم من كائنين. واحدٌ متوارٍ عن الأنظار، والثاني يُطبع في نيوريورك. عالم كهذا مضيعة للوقت فعلاً. أن نختار الخرافة لنبتسم، ونتألم لها أيضاً. هكذا، يصبح الميلاد مرحلة، جزءاً من تعليق الطفولة على شجرة. في الكبر، نمثّل على الوجود. نشتاق إلى العطلة، لا إلى المسيح، إلى الثلج لا إلى الصلاة. نحن أيتام الذاكرة. لم تبقِ الحروب فيها شيئاً يحث على البقاء. الميلاد هنا، يعني طفولتنا، التي لا فرح في أعوامها، إلا الميلاد الروماني، والواجب المقدس بالابتسام في الخامس والعشرين من كانون الأول.

ستقوم، قلت، ستقوم

أنا طفل مات في غزة. إليكم الميلاد. هاكم إياه. لمى حمدان (4 أعوام)، تُسدل عينيها على العالم. بيت حانون كانت عالمها. العوالم الأخرى مجهولة. لمى محاصرة منذ ولادتها أزلاً. لا تملك إلا دفتراً واحداً وفماً. شقيقتها هِيا ستلازمها الفراش الجديد. ملفوفة بعلم أصفر، بلا يدين وبنصف وجه، ستنام في البرد، قبل العام الدراسي الثاني. كانت أصابعها تظنها عصافير بأصوات بشعة، فكانت قذائف. الأطفال في الرابعة لا يميزون بين العصافير والقذائف. لا يفهمون تساقط الجدران. أتى الصاروخ إلى قلب سريرها. بعثر صوتها.
وفي الصورة، كم هي طويلة المسافة بين سقوطها إلى حافة القبر، والوصول. ستقوم، قلت، ستقوم. أدار الموت وجهها يساراً. ثمة دم على خدها، وآثار صلب لم يفبركها القياصرة. آثار ستحاول الذاكرة لفظها في موعد الذكرى دائماً. ولكننا، وفي حضرة الميلاد، سنبقى، كالحجاج إلى حفرتها هكذا موتى.
قبل عام، كانت أجراس الميلاد ما زالت تُقرع، وغزة تلفازٌ ضخم. المشاهدون كُثر. يتابعون القتل اليومي. أطفال من جباليا، ينتظرون الخبز والقنابل. إنها قذائف وليست عصافير إذاً. عائلة السمولي غادرت الكوكب بكاملها. سكن الفوسفور المخيّم. انسحبت الضفة دامعة العينين، من جثة بيت لاهيا. مصطلح «الحرب» في حالة غزة، تعبير ملطف. دليل تواطؤ غير معلن. الحقيقة أنه كان يوم قيامة، لكن أحداً لم يقم. بقي الجميع مشاهداً سادياً للصلب الممنهج. أغلقوا المعابر، أطفأوا التلفاز، وناموا. واليوم، بكل وقاحة، تقولون ميلاد.
بالنسبة إلي، كميّتٍ، كان الميلاد الأخير في العام الفائت.