أحمد محسنلي صديقة إيرانية، تعرّفت عليها على صفحات «الفايس بوك». زهراء التي تحب كيرت كوباين وتكره حجابها القصير. زهراء التي تريد أن تصلّي، فيما تتدلى خصل شعرها الشقراء على كتفيها. تريد ديناً تقتنع به. تريد حياةً لا تحرّم فيها أدوات التجميل، ولا يُعتبر الرقص فيها جريمة. هكذا، شاركت في التظاهرات الأخيرة، ولا أعرف شيئاً عنها الآن. أخشى أنها لاقت مصيراً مشابهاً لذلك الذي نالته الفتاة التي تناقلت صورتها وكالات الأنباء: طالبة عشرينية، ترفع يديها إلى أعلى، مذعورةً من البنادق الآلية التي شهرها في وجهها حراس الثورة. كانوا على مسافة قريبة منها. هم أربعة، مدجّجون بالأسلحة، وهي وحدها، تحاربهم يدها البيضاء، وعيناها الصغيرتان بحجم الشمس. اهتممت لأمر زهراء، لا لأنها بريئة من خطيئة ليست بخطيئة، بل لكونها ذكّرتني بأصدقاء كثر، ضاقت بهم ثقافة الطائفة الواحدة. لكن أصدقائي انسحبوا بصمت. غادروا إلى باريس وبروكسل وبرلين. زهراء لم تنسحب. ربما حاصروها قرب الحائط، لكنها لم تنسحب.
ثمة شيء يحدث في إيران. المشهد ليس غريباً، ولا يجب أن يكون كذلك أبداً. نعرفه جيداً هنا في لبنان. تلك الإطارات المشتعلة في كل مكان، منذرةً بالعطش إلى الفوضى الجميلة. تلك الوجوه التي خبأها أصحابها خلف الأقمشة، خوفاً من عدسات «الأمن القومي». تلك الأيدي التي تصارع الهواء في الصور الفوتوغرافية، والأفواه المفتوحة على مصراعيها بلا رحمة. ليت الصّور تنقل صوتاً، غير صفارات الإسعاف، وصرخات المتظاهرين، كي نفهم. كي نأخذ موقفاً يكون عادلاً. لكن الصورة تبقى صورة، وعلى الناظر، أن يرى فقط. حتى أمس، مات ثمانية، واعتقل العشرات. وعلى هذا الأساس، لا شيء يكلل ذاك المشهد سوى الألم. وكي لا يظهر المشهد هجيناً، يحضر رجال الأمن. يضربون الجميع، كما عندنا. رجال الأمن يتشابهون حيث هم. يأخذون أشكالاً مختلفة. يختلفون في الزي، لكنهم، في ما يبدو، يوجهون الضربات نفسها.
لطالما كنت من المعجبين بالثورة الإيرانية، وفي موقفها المشرّف من الحركة الصهيونية، رغم امتعاضي من التجارب الصاروخية، والبرنامج النووي، والعروض العسكرية. لا في إيران فحسب، بل في كل العالم. بدايةً، كنت أرى في الإمام الخميني إنسانية غيفارا، وفي الشاه بهلوي بشاعة باتيستا. واليوم، على عتبة هذا الغضب الإيراني، أتمنى من كل قلبي، أن يكون أولئك الطلاب، الذين خرجوا من جامعاتهم، مستقلين تماماً من أي دعمٍ خارجي، كما تتهمهم السلطات الرسمية. عربياً، أصبح هذا الاتهام أمراً واقعاً، وسبباً لنبذ أي آخر، بحجة الصراع المعزز بالغيبيات. لا جدوى من الحديث عن ثورات في العالم العربي.
وفي لبنان، عودٌ على بدء. أكثر من قائد لأكثر من طائفة. وإن كانت التسويات السياسية هنا، تصرّ علينا كشباب أن نقرأ في ما يقوله «الكبار» فحسب، ونتظاهر لأجلهم فحسب، أتمنى باسم التهميش الفظيع الذي نعاني منه، أن نفهم بذور الثورة الصغيرة في طهران. أن نبحث لماذا حضر هؤلاء فعلاً إلى ساحة آزاد. كلهم. الشبان المحتشدون خلف قبضات ملوثة بالدم، الشابات اللواتي تنسلّ شعورهنّ خلف حجاب قسري. كل الذين يملكون رأياً «آخر» ما عادت «الثورة» قادرة على تحمله.