strong>عفيف ديابيعود معظم أسباب مخالفات السلطات المحلية، التي لا تعدّ ولا تحصى في لبنان، إلى جهل بعض أعضاء مجالس البلديات القوانين المرعية الإجراء من جهة، وغياب «التثقيف» القانوني والإداري من جهة ثانية. وهذا ما أدى إلى تراكم كمّي ونوعيّ في المخالفات القانونية، سهّل ارتكابها غياب المحاسبة التي إن أتت، فهي غالباً ما تكون قاصرة نتيجة التسويات السياسية أو التعامل معها على قاعدة الـ«6 و6 مكرّر».
هذا الواقع يخلص إليه كلّ متابع للملفات القانونية والقضائية المتعلقة بالبلديات، والمتراكمة في قصور العدل. ففي قصر عدل مدينة زحلة اليوم أكثر من ملف قانوني وقضائي لعدد من البلديات البقاعية التي شهدت، أو تشهد مخالفات قانونية وهدراً للأموال العامة. الملفات المكدّسة، نتيجة بطء العمل القضائي وتأخّر إصدار قراراته الاتهامية أو أحكامه النهائية، تعود إلى سنوات مضت تتجاوز أحياناً السبع، كملف المجلس البلدي السابق في أبلح (قضاء زحلة) الذي صدر أخيراً القرار الاتهامي المتعلق به (راجع الإطار).
يعدّ هذا القرار الاتهامي الأوّل من نوعه ضد أعضاء في مجلس بلدي بقاعي سابق، ويُتوقّع أن يؤدي إلى كرّ سبحة من القرارات الاتهامية ضد أعضاء في مجالس بلدية أمعنوا في ارتكاب المخالفات. ويؤكد متابع لشؤون قضائية في قصر عدل زحلة أن الهيئة الاتهامية في البقاع بصدد إصدار أكثر من قرار اتهامي في فترات لاحقة «يعود بعضها إلى مجالس بلدية سابقة وحالية»، موضحاً أن «التباسات متنّوعة تشوب العمل البلدي في البقاع، وهناك مخالفات إدارية وقانونية لم يضع القضاء يده عليها بعد، في انتظار بعض الإجراءات القانونية والإدارية المرعية الإجراء». ويرى أن «وضع قوانين صارمة، وتطوير قانون البلديات، كفيلان بالحد من سوء إدارة العمل البلدي وهدر الأموال العامة أو اختلاسها، كما حصل في المجلس البلدي السابق في أبلح».
من جهته، يقول موظف سابق في مركز إداري كبير في وزارة الداخلية إن غالبية أعضاء المجالس البلدية في لبنان «لا يفقهون شيئاً من قانون البلديات، حتى إن القسم الأكبر منهم لم يطّلع على هذا القانون».
يضيف إنه، من خلال تماسّه المباشر السابق مع البلديات، لحظ وجود مخالفات كبيرة وكثيرة يرتكبها رؤساء بلديات وأعضاء مجالس بلدية «عن حسن نية أحياناً، وعمداً في أحيان أخرى، وهذا ما أدخلنا في متاهات قانونية وإدارية أسهمت في الحدّ من العمل البلدي، وفشل بلديات في تحقيق أعمال إنمائية، أو حتى تلك المنوطة بها وفق القوانين».
رئيس بلدية أعاد تنظيم معاملة واحدة أكثر من 7 مرات
هذه المتاهات القانونية، أو قلّة الدراية والمعرفة بالقوانين المرعية الإجراء، التي تحدّد مسار العمل البلدي في لبنان، يتحدث عنها عضو مجلس بلدية مدينة زحلة منذ أكثر من 14 سنة، المحامي توفيق رشيد الهندي، الذي له العديد من الدراسات والأبحاث القانونية بشأن تطوير العمل البلدي وقضايا بيئية، ودراسات أخرى عن «السلامة العامة». يقول الهندي إن الانتخابات البلدية في لبنان تجري وفق مبادئ سياسية وعائلية: «الناس لا ينتخبون أو يقترعون على أساس معرفة هذا المرشح أو ذاك بالقانون، بل إن اللوائح تركّب وفق الانتماءات الحزبية والعائلية، والناس لا يختارون الشخص المرشح على أساس أنه يملك خبرة ما في الشأن العام، بل وفق الحسابات السياسية والعائلية والحزبية الضيقة». يتابع: «للأسف، معظم أعضاء المجالس البلدية في لبنان يفتقدون الثقافة القانونية، والأخطر أن الثقافة الحقوقية غير متوافرة عند أغلبية أعضاء البلديات. والأخيرة أهمّ، في رأيي، من الثقافة القانونية، لأنه يجب عليّ أن أعرف حقوقي أولاً». يضيف الهندي: «على كل شخص يريد أن يدخل إلى مؤسسة عامة، أو حتى إلى جمعية أهلية، أو تُعنى بالشأن العام، أن يتمتع بالحد الأدنى من معرفة قانون هذه المؤسسة أو الجمعية أو القانون الذي يرعاها. فحين يقدم شخص على خوض انتخابات بلدية يجب عليه أن يكون ملمّاً بتفاصيل هذا العمل المقدم عليه، قانوناً وحقوقاً. ولكن للأسف في لبنان لا تؤخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، لأن المجالس البلدية تُنتخب وفق حسابات أخرى».
من خلال متابعة الهندي لملف البلديات، يلفت إلى أنّ غياب، أو محدودية الثقافة القانونية والحقوقية لدى كثيرين من أعضاء المجالس البلدية، «أسهم في إعاقة العمل البلدي في لبنان. من خلال عملي، لاحظت أن المجالس البلدية في لبنان لم تستطع أن تنطلق بمهمّاتها إلا بعد مرور أكثر من سنتين على انتخابها، واكتشفت أن السبب الرئيسي لهذا التأخر في تنفيذ المهمات يعود إلى قلة الخبرة والمعرفة بالعمل البلدي، إضافةً إلى الاصطدام بعراقيل إدارية وقانوية، ما يؤدّي إلى شلل في العمل البلدي. كما اكتشفت أن مجالس بلدية أنجزت عدداً من المعاملات خلافاً للقانون، ما سبّب تقديم شكاوى ورفع دعاوى قضائية أسهمت في إفشال العمل البلدي في هذه البلدة أو تلك، وهذا كله ناجم بالدرجة الأولى عن قلّة الخبرة أو الدراية بالقوانين المرعية الإجراء».
يكفي المرشحين أن يتقنوا القراءة والكتابة
ويؤكد الهندي أن «جهل» معظم أعضاء المجالس البلدية في لبنان القانون، ليس محصوراً في قانون البلديات، بل في القوانين الأخرى المتعلقة به. يقول: «قانون البلديات تلحقه قضايا أخرى، يجب أن يكون رئيس البلدية أو العضو ملمّاً بها، من قانون الرسوم البلدية إلى قانون ديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية (للبلديات الكبرى). وبالتالي، على الراغب في العمل البلدي أن يملك الحد الأدنى من المعرفة القانونية والحقوقية، ولكن للأسف قانون انتخاب أعضاء المجلس النيابي يشترط على المرشح أن يحسن القراءة والكتابة فقط، فكيف نطلب من المجلس التشريعي أن يسنّ قانوناً يلزم به المرشح للعمل البلدي أن يكون ملماً بالقانون أو بالمعرفة الحقوقية»؟ هذه الإشكالية يجدها الهندي سبباً إضافياً لـ«فشل» العمل البلدي «نسبياً» في لبنان، ويجد في «وعي الناس حلاً وحيداً لتطوير العمل البلدي، وصولاً إلى إبعاد شبح المخالفات القانونية المتعمّدة، أو التي هي عن حسن نية».
تدنّي مستوى «الثقافة القانونية والحقوقية» عند أعضاء مجالس بلدية في لبنان، لا يجده رؤساء بعض البلديات سبباً في فشل مهمّاتهم أو إحالة ملفات بلديّاتهم على القضاء. وفي استطلاع رأي محدود لرؤساء بلديات في البقاع (6رؤساء) و9 أعضاء في مجالس بلدية أجرته «الأخبار» تبيّن أن 96% منهم وقعوا في مطبات قانونية ناجمة عن عدم إلمام تامّ بقانون البلديات، ولا تلك المرعية الإجراء. فعلى سبيل المثال، يقول رئيس بلدية بلدة كبرى في قضاء زحلة «أعدنا تنظيم معاملة واحدة أكثر من 7مرات». يضيف: «لقد اضطررنا إلى الاستعانة برئيس بلدية صديق، وبمحامٍ حتى نجحنا في تنظيم المعاملة». فيما يقول عضو مجلس بلدية مدينة في البقاع «نحن نتّكل في كل شيء على رئيس البلدية».


تزوير لـ«تسيير الأعمال»

يحمل القرار الاتهامي للمجلس البلدي السابق في أبلح الكثير من التفاصيل عن التزوير وسوء الإدارة. وكشف تقرير الخبير المكلّف متابعة الملف، جميل يوسف الزغبي، فقدان مبلغ 52 مليون و369 ألف ليرة، عن طريق دس كتابات غير صحيحة في الفواتير، وتحريفها وإتلاف العديد من الأوراق.
وتبيّن أن البلدية لا تمسك سجلّات تفصيلية للمكلّفين بالرسوم البلدية، وذلك وفقاً لأحكام المادة 19 من قانون المحاسبة العمومية. وفي القرار الاتهامي الصادر عن القاضي غسان رباح، يتبين أنّ المدعى عليهما (س.س.) و(ر.م.) اعترفا (...) بإقدامهما على بعض الأفعال المسندة إليهما بحجة «تسيير أعمال البلدية»، تارةً تحت ستار عدم وجود موظفين اختصاصيّين، وطوراً بهدف الإسراع في تنفيذ الأشغال من أجل المصلحة العامة.