هذا العتيّ هو الذي يلفت النظر. ليس الكمّ، ليست العراقة هي ما يعنينا، بل النظر من زاوية الكيف، أي بما يتعلق بما حققته هذه الأحزاب، وبما هو وضعها. وهو ضعيف، هامشي، فاعليته محدودة وشكلية في الغالب، ولا يمتلك رؤية واضحة وتغيب عنه «الهوية الأيديولوجية»، وتحضر فيه سياسات وتكتيكات ليست صحيحة في الغالب، وبالتالي يسوده تخبط في الممارسة. ولهذا تبدو هذه الأحزاب عاجزة عن فهم اللحظة، فوعيها لا يؤهلها لأن تلتقط الواقع الراهن.
قد يكون في هذه الأحكام قسوة، وخصوصاً أن لهذه الأحزاب تاريخاً نضالياً، وشهداء، ولها أدوار كانت مهمة في فترة من الفترات. لا أتجاهل كل ذلك، لكن ليس من الممكن أن تغطي هذه على الوضع الراهن، أو توقف النقد والكشف، وخصوصاً أن الوضع العربي يفترض دوراً حقيقياً لقوى الماركسية، دوراً يكون في أساس الصراع من أجل التغيير والتطور والوحدة، بل والاستقلال. ويبدو أن هذا يستلزم قوى جديدة شابة، من دون أن يعني ذلك شطب هذه الأحزاب، وإلا لما تناولناها بالنقد. لكن الصراع بحاجة إلى رؤى جديدة وإلى وعي ماركسي عميق يتجاوز سطحية الوعي الذي استجلب من «المدارس السوفياتية»، والتي لم تقدم سوى كليشيهات وكلمات وعموميات سقطت مع سقوط الاتحاد السوفياتي. وهذا أساس توهان الأحزاب، وميل قطاعات كبيرة منها إلى الليبرالية.
فالحزب الشيوعي الفلسطيني الذي ناضل من أجل استقلال فلسطين وتأسيس دولة ديموقراطية (ولتحقيق هذا الغرض أصبح اسمه عصبة التحرر الوطني)، والذي كان ككل الأحزاب الشيوعية العربية يرفض قرار التقسيم، سرعان ما تحول إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وقسمه في الضفة الغربية إلى الحزب الشيوعي الأردني. أي أنه شطب فلسطين وتكيف مع الأمر الواقع الذي تكوّن بفعل قوة السيطرة الاستعمارية. أكثر من ذلك، بات كل من يدعو إلى رفض الدولة الصهيونية وتحرير فلسطين يُعدّ مغامراً وطفولياً. وما يزال يرى أن هذه السياسة صحيحة، ويجهد من أجل إقناع الشعب الفلسطيني بقبول الواقع الجديد، لأن السلام العالمي هو الأهم، ولأن الدولة الصهيونية باتت أمراً واقعاً لا يجوز التفكير في تغييره، وبالتالي لا يجوز الميل إلى بناء قوى مقاومة من أجل ذلك. بينما المطلوب هو الحصول على حق المواطنة، والحفاظ على «الهوية القومية»، والمساواة، والسلام، ثم دولة مستقلة في حدود الأرض الفلسطينية المحتلة سنة 1967. شكراً له! لكن مشكلة الفلسطينيين أن وطنهم محتل.
والحزب الشيوعي العراقي كان يرفض تسلّم السلطة وتطوير المجتمع، رغم مقدرته على ذلك أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وحتى الستينيات منه، قبل أن يلتحق بحزب البعث ليحقق ما كان يرفض تحقيقه من منطلق أن أوانه لم يحن بعد، أي الاشتراكية. ثم، بعد طرده من التحالف، خاض حرباً ضد الدكتاتورية، أوصلته إلى أن يكون موزّراً في سلطة تحت الاحتلال الأميركي. وهو يبرر القبول بذلك بشن الحرب على الإرهاب (الذي هو في جزء كبير منه مقاومة للاحتلال)، لتصبح «العملية السياسية» تحت الاحتلال هي لعبته المفضلة والوحيدة، ولينتهي النظر إلى أميركا كإمبريالية، بل ليتبنى وصفها كدولة أسقطت الدكتاتورية... بدل أن يتمسك بما صاغه زعيمه «الرفيق فهد» حول أولوية مقاومة الاحتلال.
رفض الحزب الشيوعي الفلسطيني قرار التقسيم، لكنه سرعان ما تكيّف مع السيطرة الاستعمارية
كلها تحديات، ربما تبدو صعبة، لكنها ضرورية من أجل أن يتجاوز وضع سيّئاً يعيشه. وربما كان إعطاء الأولوية للصراع الطبقي، وفي الوقت ذاته لتطوير الوعي الماركسي، هما المدخل لإعادة بناء يمكن أن توصل إلى حزب جديد. كما يجب عليه تجاوز الاستخفاف بقوى اليسار والماركسيين الآخرين، فالجديد هو نتاج تفاعل كل هؤلاء، وليس من فعل الحزب وحده.
* كاتب عربي