عصام العريان*لفت انتباه المراقبين للشأن التركي التطور الجديد الذي لحق بالسياسة التركية الخارجية بعد تولي وزير الخارجية الحالي، أحمد داوود أوغلو، منصبه، وزيادة اهتمام تركيا بمشكلات المنطقة العربية، وتدخلها السريع في ملفات خاصة كالخلاف العراقي ــــ السوري الأخير، بعد اتهام رئيس وزراء العراق ووزير خارجيته للنظام السوري بالوقوف وراء التفجيرات الدامية في بغداد، ومطالبة العراق لسوريا بتسليم مسؤولين سياسيين في حزب البعث العراقي، والتهديد بطلب تحقيق دولي بعد تجربة سوريا مع لجنة التحقيق السابقة في جريمة اغتيال رفيق الحريري منذ سنوات. وبذلك توضع سوريا دوماً في دائرة الاتهام بالإرهاب.
يأتي هذا التطور الجديد بعدما رسّخ حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا أقدامه في السياسة الداخلية، وبعد التعديلات الدستورية التي استطاع بواسطتها تحجيم دور المؤسسة العسكرية، وبعد الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية بأقل خسائر ممكنة، وتماسك الاقتصاد التركي، وبعد فشل كل القوى العلمانية المناوئة له في الداخل في هزّ مكانته الشعبية، رغم التظاهرات المليونية ضده والمحاولات المستميتة لاستدراجه إلى معارك جانبية. كما يأتي بعد إقرار رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، بأنه لا حل عسكرياً للمسألة الكردية، وبذلك ينفتح المجال واسعاً أمام سياسة جديدة يمكن أن تضع نهاية لإراقة الدماء المتواصلة منذ عقود دون جدوى. وهذه شجاعة سياسية نادرة في تركيا، وتحوّل ضخم في هذا الشأن الداخلي الذي استنزف موارد هائلة، وضخّم دور المؤسسة العسكرية في المعادلة السياسية الداخلية، وأدخل تركيا في نزاعات مدوّية مع سوريا والعراق، ولم ينه المسألة الكردية.
كان لافتاً للأنظار الاجتماع الرباعي الذي تكرر مرتين بين وزير الخارجية التركي ووزيري خارجية العراق وسوريا والأمين العام للجامعة العربية. كرّست هذه الاجتماعات الشعور بالدور التركي الجديد، ولعبت الصورة التلفزيونية دورها في غرس تركيا الجديدة في الضمير العربي. فها هي تركيا تعود بثوب جديد وسياسة جديدة للعب دور في المنطقة. والسؤال الهام هو: لمصلحة من ذلك الدور الجديد؟ هل هو لمصلحة تركيا الجديدة أم يمهد لعودة ما يسمى بالعثمانية الجديدة؟ أم أنه دور إقليمي لدولة محورية، يأتي في إطار سياسة عالمية جديدة تخطط لها الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية؟ أم أنه مزج بين تلك الاحتمالات جميعاً؟ أما محاولة إدراك موقع المصلحة العربية والمصلحة الإسلامية في ذلك الدور الجديد، فلا يقل أهمية عن تلك الاستيضاحات.
لقد لعب العرب، بوعي وإدراك أو بغيابهما، دوراً سياسياً خطيراً في إنهاء الخلافة العثمانية، آخر خلافة إسلامية. وكان لهم إسهام في القضاء على السلطنة العثمانية، وشاركوا في ولادة تركيا الحديثة عندما اتفقوا مع الإنكليز ضد الأتراك، وهبّوا في الثورة العربية الكبرى. اتفق زعماؤهم مع الساسة الإنكليز على وعود خادعة، سرعان ما تكشف زيفها وكذبها. وكان لهذا الدور العربي، بجانب الأخطاء التركية العثمانية القاتلة، أثره في تفتيت وحدة المسلمين وإنهاء الخلافة التى أنهكتها الأمراض وقتلتها المؤامرات.
وانعزلت تركيا عن العالم العربي قرابة قرن من الزمن، وعاش العرب تجربة الدولة الوطنية لأول مرة (باستثناء مصر التي أنتجت دولة وطنية من قديم الزمان)، وفشلت جميع الدول العربية تقريباً في تحقيق الحلم الوطني أو الحلم القومي، وكان الفشل مدوّياً على كل الأصعدة، وخاصة الاقتصادي والحريات العامة الدستورية. ولم تفلح كل محاولات تحقيق الوحدة العربية، رغم اقتناع الشعوب العربية بها، بل تحولت بعض الدول العربية إلى دول فاشلة، وتمزقت دول عربية أخرى، أو هي في طريقها للتفكك، كاليمن والصومال والعراق والسودان.
وعندما بحثت الدول الكبرى، في إطار سياسة جديدة، عن دولة عربية تستطيع القيام بدور محوري لقيادة المنطقة في إطار السياسات العالمية، ولمصلحة القوة الأميركية، فشلت الدول المرشحة لذلك الواحدة تلو الأخرى، وبات الوطن العربي محلاً للفراغ، وبرز الدور الإيراني لملء ذلك الفراغ، مما أزعج
الجميع.
وكان الفشل المصري هو المدوّي لأن مصر كانت تقود المنطقة بالفعل في مرحلة التحرر الوطني والقومي. وانكفأت مصر على نفسها وسادها الركود السياسي، وتعاظم دور الأمن الداخلي على حساب الدور الخارجي. ولعل في تجربة اليونسكو وفاروق حسني، رسالة أرادت أميركا أن تبعث بها للقيادة المصرية أنه لا دور لها خارج حدود مصر.

ستتسلم تركيا المنطقة العربية من جديد ولكنها تركيا بقبّعة أوروبية لا بطربوش عثماني أو برأس عارٍ
ولم يفلح السعوديون في القيام بالدور، لأن المال ليس العنصر الحاسم، ولأن الطموح السعودي لا يمكن أن يخرج عن عباءة الإسلام، والإسلام الذي يقدمه النموذج السعودي مرفوض غربياً، وهو محصور داخل السعودية ولا ينتشر خارجها، ومحاولات تطوير النظام السياسي السعودي ما زالت في بدايتها.
وظهر الإيرانيون الشيعة بخطاب ثوري، وسياسة متحدية للغرب وأميركا، ونفوذ مذهبي بين الشيعة العرب، ومال يأتي من مصادر متعددة. وساهمت حروب أميركا في أفغانستان والعراق في تضخيم الدور الإيراني. ونجح الإيرانيون بذكاء شديد في الحفاظ على دولتهم القومية واقتصادهم المحاصر وخطابهم الثوري، ورسموا تحالفات دولية مع الصين وروسيا، ونجحوا في بناء قاعدة نووية للطاقة السلمية يمكن أن تتحول إلى غير ذلك بقرار سياسي، وحافظوا على قوتهم العسكرية، وامتد نفوذهم السياسي إلى العراق المجاور، وسوريا ولبنان واليمن، ودعموا المقاومة في فلسطين بقوة مما جعل لهم كلمة في معظم الملفات الإقليمية. بل دعموا طالبان فى أفغانستان كي يستنزفوا الغرب الذي غرق في المستنقع الأفغاني ولا يستطيع الخروج منه.
هنا، كان لا بد من استدعاء الدور التركي، وكان الأتراك في العهد الجديد مستعدين لقبول المهمة وملء الفراغ.
وقد كان من أسباب القضاء على دولة الخلافة رفضها القاطع للهجرة اليهودية وللفكرة الصهيونية، وأيضاً وقوفها إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. اليوم، تعترف تركيا بالدولة الصهيونية، وتقف في قلب حلف الأطلسي، وتطمع بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتسير على نمط الاقتصاد الرأسمالي، وإن كان الإسلام يملأ قلوب الشعب التركي. إلا أن الأتراك قدّموا خطاباً جديداً في الشأن الفلسطيني استهوى العرب، وسارعوا للتدخل فى العراق لأن الخلاف العراقي السوري يهدد الجوار التركي مباشرة، وكانوا الوحيدين الذين أدانوا بقوة ما حدث في تركستان الشرقية ضد المسلمين الأيغور، ثم داووا بذكاء ما أحدثه كلام رئيس الوزراء مع الصهاينة ومع الصينيين.
ويبقى السؤال المفتوح الذي ستجيب عنه الأيام: ما هي مصلحة تركيا في ذلك؟ وما هي مصلحة أميركا التي تدعم الدور التركي بقوة؟ بينما تتردد أوروبا حتى الآن في قبول ذلك الدور الذي سيفرض تركيا قوةً إقليمية كبرى، ولن تستطيع أوروبا رفضها بعد ذلك. ولعل هذا هو المكسب الذي تحققه تركيا عندما تلحق بالقطار الأوروبي، بعد أن تقود المنطقة، ويكون لها كلمة في شأن هو من الميراث الاستعماري الأوروبي.
وهنا ستتسلم تركيا المنطقة العربية من جديد. ولكنها تركيا بقبعة أوروبية لا بطربوش عثماني أو برأس عارٍ! وهي تقدم نموذجها الإسلامي الذي يحلو للبعض أن يصفه بالإسلام العلماني، إسلام لا يقف ضد المصالح الغربية والأميركية، ويقبل بالوجود الصهيوني كدولة في قلب الأمة
الإسلامية.
ولله في خلقه شؤون، ونحن في موقع المتفرجين.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين بمصر