محمد خواجه*بعد انقضاء ستة وثلاثين عاماً على حرب تشرين 1973، ما زالت خلاصاتها موضع درس وتمحيص من جانب المهتمّين بالصراع العربي الإسرائيلي. لقد كانت الحرب الأولى التي يبادر فيها العرب إلى الهجوم مستفيدين من عنصرَي المبادأة والمفاجأة، اللذين تميّزت بهما إسرائيل في الحروب السابقة. وقد برهنت القوّات المصرية والسورية، قيادةً ووحدات مقاتلة، عن كفاءة عالية في مجالات التخطيط الاستراتيجي، وطرق الخداع، والتنفيذ، وإدارة المعارك، ولا سيّما في الأيام الأولى من الحرب. في مقالتنا هذه لن نتطرّق إلى سير المعارك التي حصلت؛ فقد صدر العديد من الكتب والأبحاث والدوريات التي تناولتها بالتفصيل الدقيق. وسنكتفي بالإضاءة على “ثغرة الدفرسوار” أو ما عرف “بالعبور الإسرائيلي المضاد”، لكون هذه العملية بمعطياتها غيّرت من اتجاه الحرب، وكادت تقلب النصر العربي إلى هزيمة كاملة.
وقد أثارت ظروف حدوثها، وسبل معالجتها لغطاً كبيراً، فجرى تقاذف المسؤولية بين أركان القيادة المصرية. وفيما بعد مهّدت نتائجها الميدانية للرئيس السادات وفريقه، لفتح أبواب المفاوضات الواسعة مع الجانبين الأميركي والإسرائيلي.
في اليوم الرابع للحرب، استعادت القوات الإسرائيلية توازنها، فبدأت تراود بعض قادتها فكرة تنفيذ عبور معاكس باتجّاه الضفّة الغربية لقناة السويس، بهدف تطويق مؤخّرة الفرق المصرية المنتشرة في شرقها. وكان الجنرال شارون قد لاحظ من خلال الصور الجويّة، وتقارير مفارز الاستطلاع، وجود “فتق” في منطقة البحيرات المرّة، بين قوّات الجيش المصري الثاني المنتشر من شمالها حتى مدينة بور سعيد، وبين الجيش المصري الثالث، المنتشر من ذات النقطة وحتى مدينة السويس. لكن القيادة الإسرائيلية غضّت النظر، مؤقتاً، عن تنفيذ العملية لسببين أساسيين: الأول، التفرغ للجبهة الشمالية لمعالجة اختراق الفرق المدرّعة السورية لهضبة الجولان، التي تشرف على مستوطنات الحولة وطبريا. والثاني، وجود الفرقتين المدرّعتين المصريتين (21، و4) في غرب القناة كقوّة احتياط
استراتيجي.
في 14 تشرين، قرّر الرئيس السادات بعد “الوقفة التعبوية” تنفيذ هجوم مدرّع، بذريعة تخفيف الضغط عن الجبهة السورية. لقد توقفت القوّات المصرية عن التقدّم بعد احتلال خط “بارليف”، بما يتعارض مع خطّة الحرب المشتركة السورية المصرية. وكانت القيادة السياسية المصرية، قد مارست الخداع مع حليفتها السورية أثناء التخطيط المشترك. فقد جرى التنسيق مع السوريين وفقاً لخطة “جرانيت 2” التي تقضي بوصول القوات المصرية إلى منطقة المضائق. فيما جرى إعداد تلك القوات على أساس خطّة “بدر 1” التي تكتفي بالتوغل لمسافة 10 إلى 12 كلم شرق القناة. وقد أشار رئيس الأركان المصري حينذاك، الفريق سعد الدين الشاذلي، إلى تلك الخديعة في كتابه (حرب أكتوبر). ونعتقد بأن هذا الخلل أثّر سلباً في إدارة الحرب والتنسيق بين الجبهتين. وأدى إلى ارتكاب أخطاء ميدانية قاتلة، منها ثغرة الدفرسوار.
لم يحظَ قرار السادات بموافقة الشاذلي وقائدي الجيشين الثاني والثالث سعد مأمون وعبد المنعم واصل، إذ رأوا أن قيام 400 دبّابة مصرية، بمهاجمة ثمانية ألوية مدرّعة إسرائيلية ـــــ 900 دبّابة ـــــ بمثابة عملية انتحار. وكان على الدبّابات المصرية الخروج من تحت مظلة صواريخ “سام”، ما يجعلها مكشوفةً لسلاح الجو الإسرائيلي. حينها ارتأى السادات سحب الفرقتين المدرّعتين من غرب القناة لتنفيذ الهجوم، مخالفاً بذلك أبسط القواعد العسكرية، بحيث أصبحت الجبهة المصرية من دون قوّات احتياطية. وقد انتهى ذلك الهجوم بكارثة حقيقية، في خلال ساعات، فقدت القوّات المهاجمة أكثر من مئتي دبّابة.
أغرت نتيجة المعركة هذه، وخلوّ غرب القناة من قوات الاحتياط، القيادة العسكرية الإسرائيلية لتنفيذ خطة العبور المضاد: ففي ليل 15-16 تشرين بدأت طلائع فرقة شارون تتسلّل إلى الغرب، من المكان الذي تتصل فيه قناة السويس بالطرف الشمالي للبحيرة المرّة الكبيرة. وهي النقطة التي تفصل بين قارّتي آسيا وأفريقيا على الأراضي المصرية. للوهلة الأولى، تعاطت القيادة المصرية مع خبر العبور بخفّة، معتقدة أن الأمر لا يتعدّى تسلّل بضع دبّابات، سيجري التعامل معها. لكن خلال نهار 16 تشرين بدأت الأنباء

تبقى حرب تشرين علامة مضيئة في السجل العسكري العربي، فقد مثّلت أول عملية كيّ للوعي الإسرائيلي
المقلقة تتوالى وتفيد أن دبّابّات العدو تهاجم المواقع الخرسانية لكتائب صواريخ السام، وكان بعضها على عمق 15 كلم غرب القناة. وبذلك انقلب المذهب العسكري الإسرائيلي رأساً على عقب؛ فسلاح الجوّ الموكل إليه فتح الطريق للمدرّعات، اعتمد عليها لتفتح له الباب. وفعلاً نجحت دبّابات العدو في اصطياد بطاريات الصواريخ، لتُمكِّن الطائرات الإسرائيلية من “التسلّل”، لتنقّض على القّوات المصرية من الخلف.
ولمعالجة الموقف المستجّد، اقترح الفريق الشاذلي على الرئيس السادات سحب الفرقة الرابعة، واللواء المدّرع 25 من الشرق إلى الغرب ليلاً، لمحاصرة الألوية الإسرائيلية وتصفيتها. فأقدم السادات على توبيخه، ورفض فكرة سحب قوات من الشرق. وبهذا ارتكب السادات خطأً استراتيجياً للمرّة الثانية. وفي يومي 17 و18 تشرين توسّعت رؤوس الجسور الإسرائيلية، واندفعت فرقتان مدرعتان إلى غرب القناة، إحداها بقيادة شارون اتجهت مباشرةً إلى مدينة الإسماعيلية في محاولة لعزل الجيش الثاني وتطويقه. فيما تقدّمت فرقة الجنرال “برن” باتجاه مدينة السويس، ونجحت في تطويق الجيش الثالث وقطع طرق إمداداته. في ليل 19/20 تشرين اندفعت فرقة الجنرال “ماجن” المدرّعة نحو الغرب لإحكام عملية التطويق. حاول الفريق الشاذلي مرةً جديدة، إقناع السادات بضرورة سحب أربعة ألوية مدرّعة من الشرق إلى الغرب، لمواجهة الموقف الخطير، لكن من دون جدوى. وباتت الدبّابات الإسرائيلية ضعفي نظيراتها المصرية في غرب القناة.
عندما توّقف القتال يوم 24 تشرين كان الجيش المصري الذي قاتل ببسالة، في وضع لا يحسد عليه، بسبب القرارت المرتجلة لقيادته السياسية. وأصبح الجيش الإسرائيلي على بعد مئة كلم من القاهرة. وقد عبّر الكاتب محمد حسنين هيكل عن هذا الموقف بالقول: “في حرب 1967 هزم السلاح السياسة، وفي حرب 1973 هزمت السياسة السلاح”.
استغلّ السادات الوضع الميداني الصعب، ولا سيما حصار الجيش الثالث للبدء بمفاوضات عسكرية مع الجانب الإسرائيلي، برعاية “صديقه” وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر. وتدرّجت تلك المفاوضات من عسكرية إلى سياسية، وأدّت إلى زيارة القدس وانسحاب مصر كلياً من الصراع العربي الإسرائيلي بمقتضى اتفاقيات كامب ديفيد. وبهذا حقّق العدو الأهداف التي توخّاها من حرب حزيران 1967، وأصيب النظام العربي بشللٍ ما زلنا ندفع ثمن تداعياته حتى يومنا هذا. وتحمّل لبنان العبء الأكبر من تلك التداعيات؛ فتأجّجت الحرب الأهلية، وتجرّأت إسرائيل على احتلال
عاصمته.
رغم ما تقدّم تبقى حرب تشرين علامة مضيئة في السجل العسكري العربي. فقد مثّلت أول عملية كيّ للوعي الإسرائيلي، نتيجة الصدمة التي أصابت الجيش والمجتمع الصهيونيّين. ويمكن القول إن آخر الحروب العربية الإسرائيلية الكلاسيكية، أفضت إلى نصف انتصار ونصف هزيمة لكِلا
الطرفين.
* باحث في الشؤون العسكريّة