محمد بنعزيز *أيام قلائل بعد قتل الشاعر والصحافي المزعج، رُقّي رئيس الاستخبارات إلى رتبة عقيد. إنه القتل العمد لشخص معتقل ومقيد... «ماذا بإمكان الناس أن يفعلوا ليسترضوا تاريخاً بالغ المرارة؟». يطالبون منفذي القتل العمد بالاعتذار. تصحيح: الاعتذار يكون عن الخطأ، لذا تبقى «ذكرى الاضطهاد جاهزة ومصقولة على الدوام».
رواية تشنوا أشيبي، «كثبان الرمل في السافانا»، تحكي عن نظام الحكم في دولة كيجان المتخيلة والقائمة غرب أفريقيا. نظام أسسه ثلاثة أصدقاء منذ الطفولة، كولونيل وصحافي وشاعر، ترويكا، تحكم البلد. هناك الجنرال، فخامة الرئيس، «عظيم الشان» كما يلقب في وسائل إعلامه، أو كابيسا كما يلقبه الشعب ساخراً. ثم الشاعر الثوري المتهور الذي يرأس تحرير الصحيفة اليومية الحكومية. والثالث، الصحافي السابق ووزير الإعلام حالياً، الوسيط بينهما. خلال سنتين بعد الانقلاب، كان كل شيء على ما يرام، لكن بدأت المشاكل بعد عودة فخامته من مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية، حيث التقى زميله الرئيس مدى الحياة نقوقو. حينها انعزل، وضخم البروتوكول، وقرر إجراء استفتاء يُعلن بموجبه رئيساً مدى الحياة. إنها عدوى الزملاء...
بعد الاستفتاء اشتد الفرز، وبدأ الصراع بين الثلاثة على نظام الحكم، ومن يحكم، ومصير المحتجين، فبدأت الأمور تتضح!! عُلق العمل بالقوانين، فانطلقت عبادة الديكتاتور. جلسة الوزراء التي يترأسها هي سلسلة من الإهانات ومزيد من التملق، فخامته يضرب وزراءه بعضهم ببعض ليشوا بزملائهم. وهم «أحد عشر من المثقفين الأذكياء الذين رضوا بأن يحدث لهم ذلك، في الحقيقة قد انحرفوا عن مسارهم ليسمحوا بذلك».
الطريقة المبتكرة لمكافحة الفساد: «يقتل شخص جاره بالساطور فيقبضون على الحداد الذي صنع الساطور»
يقول وزير الإعلام عن فخامته إنه لم يتلق أي تكوين ليكون رئيساً، إنه جنرال مذعور من وطأة منصبه، يعتبر العرائض والتظاهرات إشارة إلى عدم الانضباط. كابوسه هو أن يرفضه الناس، لذا يعمد إلى تقريب البيروقراطيين ورجال الأعمال الطفيليين. إنها الطغمة التي ورثت الاستعمار، يقول الراوي، «ففي عملية سحب القرعة المضحكة، حيث توزع أقدار البشر في المجتمعات الأفريقية لفترة ما بعد الاستقلال، حينما يبدأ شخصان في الصباح حياتهما، حتى ولو كانا توأمين متطابقين، ثم بكل بساطة يجدان نفسيهما في المساء وقد أصبح أحدهما رئيساً للبلاد يرمي بفضلاته على رؤوس العباد، والثاني خادم الليل يحمل فضلات الناس في دلاء فوق رأسه». الاستحقاق الوحيد الذي عرفته البلاد حتى الآن هو استفتاء بنعم للرئاسة مدى الحياة، وقد بقيت الغصة في حلق «عظيم الشان» لأنه فاز على نفسه بنسبة خمسة وسبعين في المئة فقط، لذا سيصفي حسابه مع صديقيه لأنهما أفشلا الاستفتاء الذي لم يحقق النسبة المعروفة.
يحكي مزارع عجوز من إقليم ناء في البلاد عن رجال الدعاية: «إن هؤلاء الأشخاص أنفسهم الذين يعج بهم المكان ويطلبون منا التصويت بنعم، أتوا إلينا ذات يوم وقالوا لنا إن الزعيم نفسه لا يريد الحكم مدى الحياة ولكنه أُجْبر على ذلك.
فسألتُ: ومن هو الذي يجبره؟
فأجابوا: الشعب.
وسألتُ عندها: أيعني ذلك نحن؟
وتحولوا بنظراتهم من جانب لآخر. وفي النهاية أيقنت أن المكر قد دخل الأمر».
لم يصوّت ذلك الإقليم بنعم، فبدأ الجنرال يهدد وزيره في الإعلام، بل استدعى صديقة وزيره إلى حفل خاص وحاول مضاجعتها.
في ذلك الحفل ستتعرف الصديقة على الطغمة: متحدثها البليغ الذي يفتخر بأنه سبق له أن «دبر فتاة في لندن لعظيم الشان»، رجل الأعمال «الواجهة» والذراع الاقتصادي لفخامته، تفوق في سنة واحدة على كل مليونيرات البلاد، لديه طائرات وسفن محيطية ورصيف بحري خاص لا دخل للجمارك به، ولحماية ذلك هناك رئيسا الجيش والاستخبارات... إنها دولة البوليس المتنامية والمكوّنة من بوق ومسدس!
للتستر وللتسيير، يحكم الجنرال بواسطة وزير الإعلام الذي يراقب رئيس التحرير ويوبخه لأنه «يجعل من دون كيشوت، وأمثاله من الشخصيات الخيالية، مثلاً أعلى له». لكن «الشاعر مع الخاسر» كما قال غارسيا لوركا، لذا تعاطف مع المحتجين.
طُرد الشاعر من الصحيفة عقاباً، لم يجد الوزير ما يفعله غير نصح صديقه بالصبر والصمت، يرد هذا بحدة «أسوأ وصفة لمحرر موقوف عن العمل هي الصمت. ذلك ما يريده رئيسك... يعتقد أنه يملك صوتك... يجب ألا تسمح له بالفوز».
ذلك ما فعله الشاعر عندما استجاب لدعوة اتحاد الطلبة وألقى محاضرة عاصفة في الجامعة. تحدث عن الطريقة المبتكرة لمكافحة الفساد في البلاد: «يقتل شخص جاره بالساطور فيقبضون على الحداد الذي صنع الساطور». وفي اليوم الموالي طلعت الجريدة التي طرد منها بمانشيت عريض: «رئيس التحرير السابق يدعو إلى قتل رئيس الدولة». ها... لقد عثروا على المشجب، اعتقلوا الشاعر وعذبوه وقتلوه، فصدر بلاغ حكومي لتنوير الرأي العام، أكد أن الشاعر انتزع السلاح من حراسه فدافعوا عن أنفسهم، فقُتل!
يقدم النيجيري تشنوا أشيبي، الذي يعتبر الكتابة التزاماً أخلاقياً، معالجة فنية لواقع مأساوي قهري عبر رواية سياسية حتى النخاع. وخاصة أن جمهورية كيجان الوهمية ليست بعيدة عنا، لقد كان كلام الصحافي/ الشاعر الغاضب مدوّياً، يرى فيه المستمعون صورتهم، لأنهم لا يعتبرون السياسيين ممثلين لهم. وفي هذه الحالة، حتى حين يقول الصحافي إنه مهني، لا يستطيع الصامتون النظر إليه كذلك، يعتبرونه ناطقاً باسمهم.
عندما يشتد القمع ويستشري الفساد داخل النخبة السياسية، كما هو جار في العالم العربي، تعرقل السلطة حرية التنظيم والتجمع، فتجرف مشتل ولادة نخب جديدة ونموها. تبرز قيادات/ طحالب من وسط مغاير ليس حتى إعلامياً، بل من نجوم الغناء والرياضة، أي الذين يتحركون تحت الأضواء وليس وسط المجتمع. وبفضل الحركة والأضواء يتصدر اللاعب والرياضي للزعامة، فهذا لاعب كرة ينحدر من إقليم ناءٍ في البلد يعامل كناطق رسمي باسم كل المنطقة، وذاك المغني، وقد تضخمت صورته على الشاشة: الجزائر هي الشاب خالد، مصر هي حسام حسن، العراق هو كاظم، المغرب هو هشام الكروج... زعماء من ضوء، يتماهى معهم الناس على زعم أنهم يحملون همومهم. حينها تلتفت السلطة لهذه «المعارضة» لتعالجها، وهي معارضة لا تستدعي الاعتقالات. لقد تغير الزمن، يكفي إغراق النجم مالياً، ليضع ساعات كاردان ويقود سيارات بورش. حينها يُصْدم الناس ويعلنون خيبتهم في حبيب الجماهير، لأنه مجرد زعامة فردية هشة، دون كاريزما ولا تنظيم، بل هو مجرد طفيلي مشهور، استقطابه سهل، تروج به وزارة الداخلية حملتها الانتخابية وتسوق به السيدة الأولى لجمعيتها التي ولدت عملاقة وفي فمها ملعقة من ذهب... حينها يُستهلك الزعيم الضوئي وترتبط صورته بإعلانات آلات الطبخ ومساحيق الغسيل... يبتعد عنه الناس بحثاً عن نجم جديد، فقير ونحيف على شاكلتهم.
مع الدوران في هذه الحلقة، يبدو العالم العربي راكداً على نحو لا يصدق، والسلطة تقص أي عشب جديد. تفكُك المجتمع يعرقل بروز قيادات طبيعية، حتى الذين نادوا بالإصلاح بعد 2003 كانوا مجرد أصوات أميركية مستعارة والدليل أنها خبت بسرعة. مع وضع كهذا، من سيصوغ ويقود التغيير المنشود من الخليج إلى المحيط؟
* صحافي مغربي