نشرت «الأخبار»، أمس، الجزء الأول من دراسة الدكتور سري مقدسي حول فضيحة تقرير غولدستون، والذي تناول فيه مضمون التقرير وأسباب سلوك السلطة الفلسطينية تجاهه. هنا الجزء الثاني الذي يتحدّث عن استنتاجات ما حصل.
سري مقدسي *
إذا أعلن عباس ومساعدوه «استقلال» دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة، كما اقترح رئيس الوزراء الحالي المزعوم سلام فياض (رجل آخر لا يتمتع وجوده في الحكم بأي مشروعية بما أن تعيين عباس له اعتباطياً ليحل محل قيادة حماس المنتخبة شرعياً، مهما كان رأي المرء فيها، لم يثبّته أبداً المجلس التشريعي الفلسطيني الذي أضحى العديد من أعضائه داخل السجون الإسرائيلية الآن) وهو أمر مستبعد، يجب أن يكون قد أصبح أوضح من أي وقت مضى الآن أن مثل هذه «الدولة» ستقدّم للفلسطينيين فقط المزيد من الخيارات نفسها (الفساد، والعرضة للشبهات والتعاون مع العدو)، فيما تستمر في خدمة مصالح إسرائيل، إن لم يكن في تلقي الأوامر مباشرة من واشنطن وتل أبيب.
على أي حال، إن القضية الفلسطينية هي كفاح من أجل الحرية والعدالة وليس من أجل إنشاء دولة صغيرة في الأراضي المحتلة سترعى، كما قلت، وحتى في أفضل الظروف، مصالح تلك الأقلية من الشعب الفلسطيني التي تقيم هناك، لا أكثر.
فماذا يُستنتج من كل ذلك إذاً؟
أولاً أنه يجب ألاّ ينظر أي فلسطيني إلى القيادة الحالية كمصدر إرشاد وتوجيه: فقد خانت الشعب وأثبتت أنها لا تستحق ثقته بتاتاً، حتماً يطالب العديد من الفلسطينيين، بمن فيهم رئيس تحرير صحيفة القدس العربي عبد الباري عطوان، باعتقال الذين كانوا وراء القرار الأخير ومحاكمتهم. ومما لا شك فيه أن الفلسطينيين لا يستطيعون أن يتوقعوا معاملة من واشنطن وتل أبيب أفضل من تلك التي يلقونها من رام الله، مع قيادة على هذه الدرجة من الفساد، قيادة غير مؤهلة أو متعاونة مع العدو المحتل. أما المعارضة التي تمثّلها حماس مع القيادة البديلة التي تؤمنها، فلا تملك ما تقدمه على المدى الطويل أكثر من المقاومة من أجل المقاومة، ما لا يؤلف بحد ذاته مخططاً للحرية والعدالة، كما أنها لا تملك، في أي حال، ما تقدمه للفلسطينيين المسيحيين أو العلمانيين (ولا حتى للمسلمين منهم فعلياً).
الاستنتاج المباشر الثاني الذي يمكن استخلاصه من هذه التجربة أنه يجب حل السلطة الفلسطينية مرة واحدة ونهائية، كما يطالب المزيد والمزيد من الفلسطينيين، وخير البرّ عاجله. فيجب أن يكون هذا السلوك الأخير فعلياً السلوك الأخير في سجل طويل قاتم يثبت أن السلطة الفلسطينية لم تخدم مصالح الشعب الفلسطيني، ليس هذا وحسب بل أنها، على العكس، تلبي في الأساس حاجات إسرائيل ومتطلباتها.
من دون قيادة تتمتع بمصداقية أو شرعية، سيتعين على الشعب الفلسطيني أن يعتمد على نفسه لكي يتابع كفاحه من أجل الحرية والعدالة والمساواة. وقد عرف كفاحهم أفضل مراحله حتماً، كما في حقبة الانتفاضة الأولى في ثمانينيات القرن المنصرم حين لم يكن للقيادة الرسمية، المنفية إلى تونس في ذلك الحين، دور فيها تقريباً. فلا عجب إذاً أن الرد الإسرائيلي على النزعة الاستقلالية الناشئة التي ميزت الانتفاضة الأولى تلك كان إعادة القيادة الرسمية إلى داخل فلسطين؛ فتوقفت الانتفاضة الأولى حينئذ، وراحت الأمور تتراجع مذّاك.
في بحثنا عن حل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، يجب علينا إذاً مرة واحدة ونهائية أن نتوقف عن التطلع إلى حكومات ومسؤولين (منتخبين أو غير ذلك)، سواء في الولايات المتحدة أو إسرائيل أو بين الفلسطينيين أنفسهم. فكما أثبتت إدارة أوباما، لن تقدّم الحكومة الأميركية أبداً السلام والعدالة في فلسطين على الضغوط والشؤون السياسية الداخلية في الظرف السياسي الحالي؛ ولن تتراجع الحكومة الإسرائيلية لحظة واحدة عن خطة توسيع المستوطنات

يجب أن يكون هذا السلوك الأخير للسلطة الفلسطينية فعلياً السلوك الأخير في سجل طويل قاتم

التي تنفذها من دون انقطاع في الضفة الغربية والقدس الشرقية ما لم يجبرها ضغط خارجي على التصرف تصرفاً مغايراً؛ والحكومة الفلسطينية، حسناً هذه المنعدمة الوجود. ثمة شعب يعيش جزء منه في ظل الاحتلال العسكري؛ وجزء آخر في منفى مفروض عليه؛ وجزء ثالث كأقلية يمارَس بحقها التمييز العنصري والتفرقة داخل إسرائيل. ما يحتاجون إليه هو إعادة تركيز كفاحهم بأشكال يستطيعون جميعاً التماثل معها، جماعياً وبالتساوي، لا بل بأشكال يتماثل معها ذوو الإرادة الطيبة في مختلف أرجاء العالم، أولئك الذين أثبتوا مراراً وتكراراً وبعشرات الآلاف دعمهم العدالة لفلسطين.
الفلسطينيون ليسوا وحدهم، وهذا مؤكد: إنهم يملكون دعم الناس في مختلف أرجاء العالم. وعلى ذلك الاحتياط من الإرادة الطيبة والإيمان القوي اللذَين يتمتع بهما الناس العاديون حول العالم، يجب أن يعتمد الفلسطينيون في مرحلة لاحقة. فكما أثبت النضال ضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، تستطيع الحكومات أن تتصرف، لا بل إنها تتصرف عندما يرغمها على ذلك الناس العاديون ذوو الإرادة الطيبة. وحتى لو ترددت عملياً، إن الحملة العالمية الناشطة التي تهدف إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها بغية إجبارها على الانصياع للقانون الدولي وتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني (كله) تسجل النجاح تلو الآخر، ما يذكّرنا جميعاً بأن عمليات المقاطعة تؤتي ثمارها فعلياً.
هذا هو الاتجاه الذي يجب أن يسلكه الآن كل الفلسطينيين الذين يفتقدون قيادة. وينبغي أن يكون مطلبهم مطلباً يراعي ويوحد حقوق كل فئات الشعب الفلسطيني، لا حقوق أولئك الذين يقاسون الأمرّين في ظل الاحتلال فقط، ويراعي أيضاً حقوق الإسرائيليين اليهود ويعترف بها، أمر يمكن أن تتماثل معه بسهولة أكثرية الشعوب المحترمة في العالم: العدالة والمساواة ومبدأ «شخص واحد، صوت واحد»: بتعابير أخرى، إنشاء دولة واحدة ديموقراطية وعلمانية يستطيع الفلسطينيون والإسرائيليون أن يتعايشوا فيها بمساواة في سلام عادل ودائم. فلن يكون سلام من دون عدالة.
* أستاذ الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)