سعد الله مزرعاني*تؤكّد تطوّرات متلاحقة أنّ قيادة المملكة العربية السعودية هي من يتصدّر، بل يقود، في هذه المرحلة، محور «الاعتدال العربي». قيادة المملكة اندفعت في هذا الموقع والدور إلى حدود غير معهودة. هي كانت، تقليديًّا، تمارس دبلوماسية هادئة. تفضّل العمل خلف الكواليس. تتجنّب الدخول في صراعات وسجالات مباشرة. الغزو الأميركي للعراق كان المنعطف. في كنف هذا الغزو تحوّلت قيادة المملكة بدفع من الفريق الأكثر ارتباطاً فيها بالإدارة الأميركية، إلى سياسة مواجهة، بدون قفازات وبدون حدود. كان ذلك توظيفاً في الغزو وفي نتائجه، ومغامرة حسبتها قيادة المملكة مضمونة النتائج نظراً للتفوّق وللتصميم الأميركيَيْن: وفي مجرى ذلك لم تتردّد قيادة المملكة في تبرير العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، كما انخرطت في حرب مكشوفة لإسقاط النظام السوري... إلى مدّ اليد للعدو الصهيوني نفسه!!
وكانت قيادة المملكة تأمل، من خلال ذلك، أن يستتبّ لها الأمر بالتخلص من قضايا مزعجة ومن خصوم مستفزّين في الوقت عينه. أما القضايا المزعجة فتقف في مقدّمتها القضية الفلسطينية... وأما الخصوم المزعجون فيتصدّر صفوفهم عربياً (بعد إسقاط الرئيس العراقي صدام حسين ونظامه)، النظام السوري، وإقليميًّا، نظام الجمهورية الإسلامية في إيران. هذا فضلاً عن خصوم لا يقلّ بعضهم إزعاجاً: وهم قوى المقاومة وحركاتها الناشطة في فلسطين ولبنان...
ماذا بعد الفشل الأميركي؟ بدءاً يجب ملاحظة أنّ قيادة المملكة قد استعادت أسلوبها التقليدي السابق في ممارسة الصراع والتباين والحوار والعلاقات. تندرج زيارة دمشق في هذا السياق. وكذلك ما صدر عن قمة الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري بشار الأسد. فلقد طرح وفد المملكة في هذه القمة، مقاربته الجديدة للوضع في المنطقة وللعلاقات العربية ــــ العربية والعربية ــــ الإقليمية. ويقوم جوهر هذه المقاربة على السعي لاستعادة «التضامن العربي»، واستطرد السعوديون بأنّ هذا التضامن يستهدف تحصين الوضع العربي في مواجهة التدخل الإيراني المتزايد في شؤون دول الخليج خصوصاً، والشؤون العربية عموماً. وقد أعطوا مثالاً على ذلك ما يجري في اليمن حيث بحسب رأيهم، تشجّع القيادة الإيرانية تمرّد الحوثيين في صعدة وتدعمهم، من منطلق مذهبي، ومن منطق توسّعي. وأشاروا إلى برنامج إيران النووي بوصفه أداة لتعزيز الموقع الإقليمي التوسّعي لطهران، وليس أداة توازن مع إسرائيل، معتبرين أنّ حرب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الكلامية ضدّ المحرقة اليهودية، إنّما هي كلام إعلامي لتغطية حقيقة النوايا الإيرانية حيال العرب، وحيال الخليج خاصة. يضيف مطلعون، أنّ الجانب السوري قد أبدى ترحيباً باستعادة التضامن العربي، معترضاً في الوقت عينه، على التعامل مع إيران بوصفها مصدر الخطر، فيما مصدر الخطر الحقيقي إنّما يكمن في العدوانية الإسرائيلية المتجدّدة في أبشع صورها ومخاطرها، الآن، عبر التحالف الصهيوني المتطرّف الذي يقوده بنيامين نتنياهو. ولقد اقترح الطرف السوري، حسب مطلعين، أن يجري تحديد المصالح العربية في هذه المرحلة، وأن يجري بموجب ذلك، تصنيف العدو من الصديق وفقاً للمواقف والسياسات والتوجّهات... لم يتوصّل الطرفان إلى اعتماد مقاربة موحّدة من قضايا المنطقة في أكثر من أمر. وحال ذلك دون صدور بيان ختامي، وإن كان البيانان الصادران عن الطرفين ينطويان على رغبة مشتركة في تدوير الزوايا، وخصوصاً من قيادة المملكة السعودية.
إنّ إضعاف العلاقات السورية ــــ الإيرانية سيبقى هدفاً أساسياً تُبذل من أجله جهود ترغيب وترهيب على حدّ سواء. وفي هذا السياق، يدخل لبنان مادة مساومة واستكشاف نوايا وتمنيات. المقصود بذلك، مجدّداً، إغراء القيادة السورية بدور في لبنان، يقدّر المخطّطون أنّ دمشق تسعى إليه، ولو من قبيل الثأر للإهانة التي تعرّضت لها، سياسياً وعسكرياً، في لبنان، في ربيع عام 2005. ليس إغراء القيادة السورية بدور مستعاد (بهذه الدرجة أو تلك) في لبنان، أمراً ناجماً عن تحليل قد يخطئ أو يصيب. إنّه أمر جديّ جرى تناوله بصراحة في جريدة «الرياض السعودية»، في مقال بعد القمة السعودية ــــ السورية، وتحت عنوان: «لماذا لا تعود سوريا إلى لبنان؟».

إضعاف العلاقات السورية ــ الإيرانية سيبقى هدفاً أساسياً تُبذل من أجله جهود ترغيب وترهيب على حد سواء
يرى كاتب المقال في الجريدة الرسمية السعودية، أنّ «مشكلة لبنان هي في أنّه يصعب أن تقوم فيه حكومة قادرة على قيادة الجميع داخل حدوده، لأنّ من هم مختلفون داخل تلك الحدود، هم حكومات خاصة لمواقف خاصة ومصالح خاصة، توارثوا مهمة الانقسامات عبر سنين طويلة تحققت لهم فيها مكاسب خاصة لا يستطيعون الحصول عليها لو استسلموا لحكومة عامة». ويضيف الكاتب «أنّ في سوريا حكماً قويًّا قادراً على إذابة تعدّد الحكومات داخله... ولبنان سيكون المستفيد الأوّل (من ذلك) ومعه المستثمرون العرب والسيّاح العرب...». ليس المهم في هذا الكلام أنّه قد مرّ مرور الكرام ودون أن يلحظه أحد من فريق السيادة والاستقلال في أمانة الرابع عشر من آذار. المهم هو ما يمثّله من استخدام لبنان مجدّداً، في السياسة السعودية، كجزرة تجاه القيادة السورية، بعدما استُخدم كعصا في السنوات الماضية.
لا يخفى أنّ هذا العرض شبه الرسمي إنّما هو فخّ يُنصب لدمشق، وهو يستهدف ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: الأوّل، إعادة التوتر والحذر إلى العلاقات السورية ــــ اللبنانية، ومنها إلى العلاقات التي نشأت أخيراً، على سبيل المثال، بين «التيار الوطني الحر» بزعامة العماد ميشال عون ودمشق. ومنها أيضاً، وهذا هو الأهم، ضبط «حزب الله» وسلاحه ودوره في نطاق استراتيجية تقرّرها توازنات واستراتيجيات ومصالح، ليس منها أولوية الصراع مع العدو الصهيوني. وينهي هذا الموضوع، في تصوّر مشكلة المخططين، موضوع حق العودة، إذ إنّ توطين الفلسطينيين في سوريا، لم يُطرح يوماً، كما في لبنان، باعتباره مشكلة سورية داخلية، فضلاً عن كونه مشكلة أساسية
فلسطينية...
لقد وُجد دائماً بين الساسة والمخططين والأمنيين الإسرائيليين من طرح فكرة السلام مع دمشق كهدف يستطيع أن يحقق أهدافاً أخرى أساسية. وطالب هؤلاء سلطتهم بدفع ثمن مقابل ذلك. وهم أكدوا دائماً، أنّ ما ستجنيه إسرائيل سيكون أضعافاً مضاعفة عما ستوظفه أو ستتنازل عنه في هذا الصدد.
قيادة المملكة ليست في وضع قوي بعد انهيار مشروع الرئيس الأميركي السابق (ومعه «المحافظون الجدد») في العراق وفي المنطقة. إنّها بالتأكيد في موقع القلِق أمنيًّا وسياسياً، في الخليج وفي المنطقة، وفي الداخل السعودي نفسه. لكنّها تحاول الآن، بما تملك من قدرات نفطية هائلة، وبسلاح الانقسام المذهبي وبسواهما، أن تضعف خصومها، بعدما عجزت عن المساهمة في تدميرهم!
التضامن العربي، من وجهة نظر شعوبنا وانطلاقاً من مصالحها يستدعي مقاربة مضادّة. حتى الآن، ثمّة سياسات ومواقف لا تنتظمها استراتيجية موحّدة، واثقة وواضحة ومثابرة، لمواجهة مشاريع الهيمنة والنهب والعدوان، الأميركية والإسرائيلية، خصوصاً.
القيادة السورية مدعوّة إلى الحذر، أما الكاتب السعودي فللأسف، قد أصاب في التوصيف بشأن هشاشة الوضع اللبناني، وإن كانت الأهداف والنوايا التي توجِّه أفكاره خاطئة وخطيرة لبنانياً وسورياً وعربياً!
* كاتب وسياسي لبناني