وائل عبد الفتاحهل تحسد هيكل؟ لا بد من أن تحسده، فالرجل لا يزال يتمتع بحيوية ورغبة لا حدود لها في عدم الخروج من الساحة. يعلّق، ينقد، يقدم روشتات. كلها من خبراته في دولة ما بعد التحرّر. هذا هو موديله المقدس. دولة مركزية قوية تدير المجتمع وفق خطة تنمية وإرادة سياسية تسمح بتعدد «تحت السيطرة».
العودة إلى الدولة الغائبة هي خلفية تحليلاته في القضية الفلسطينية أو في الشأن الداخلي المصري. غياب الدولة أو استقالتها من الدور الكبير هو سبب الهزيمة المستمرة. تحليل أقرب إلى الرثاء منه إلى رؤية جديدة تعتمد على خريطة القوى الجديدة أو البحث عن طريق آخر غير استنهاض القوة القديمة للدولة الرائدة. البحث عن هذه القوى مثل إحياء قوة حبيبات البن. هو بحث عن وهم أو خيال مفرط في نوستالجيته.
النوستالجيا هي استمرار شعبيته. ظهوره على الشاشة أو على صدر صحف «معارضة» هو علامة الحنين الصريحة إلى زمن «التحرر» الجميل. وأيقونة الحل الجاهز: العودة إلى دولة الستينيات.
هيكل يحب صورته الجديدة المنفلتة والمستفزة لحراس نظام مبارك. لكنه لا يخرج عن خطاب موجود بقوة في تركيبة النظام ولا عن أشواق المعارضة باتجاه الدولة. هيكل هو أيقونة معارضة «دولتيّة» أكثر من الدولة نفسها. لم يكن هيكل قطّ في صورة معارض النظام. ولم ينتظم في كتابة خارج صحف الدولة.
هيكل لم يفكر في أن يكون كاتباً منتمياً إلى غير الدولة. لكنه بعد اعتزال الكتابة قرر أن يترك نفسه قليلاً لمزاج النقد الحرّيف للدولة في عهد مبارك. انجرف «الأستاذ» لغواية الصحافة المشاغبة التي صنعها تلامذة لم يمروا بمدرسته، وهو «المتحفظ» يخرج بين الحين والآخر كأنه في فسحة مع «أبناء» ضالين عن الدولة.
يضع نفسه في قلب الاستقطاب العنيف المشتعل الآن بين الأغنياء والفقراء، بين الثوريين والمحافظين، بين الحكومة والشعب. ويطل بحسرة على بخار الدولة التي شارك في صناعتها وكانت طوال الوقت نموذجه الفاتن. ورغم أنه لم يكن «ناصرياً» في السياسة، فإن موديل الدولة الناصرية هو مصدر الإلهام الكبير لمن كان مستشار الرئيس عبد الناصر. البعض يعدّه «شريكاً» في السلطة. لكنها مبالغة لواقع يمكن أن نرى فيها خصوصية حكم زعيم يعتمد على الكاريزما السياسية. ويقود الشعب بشرعية الثورة. ويخطب في الشرفات. ويضع البلد كله على خط النار. الزعيم الملهَم يحتاج دائماً إلى: صانع الأفكار ومهندس العمليات، يحتاج إلى صحافي موهوب في صناعة صورة للنظام.
هو صانع الصور السياسية. هذه هي مهارته الأولى والمهمة التي احتاج إليها السادات في بداية عهده. حين مهد له هيكل الجسر إلى السيطرة الكاملة على السلطة في صراعه مع مجموعة موظفين في الدولة الناصرية سمّتهم أجهزة الإعلام وقتها «مراكز القوى».
في الحالتين هو ابن الدولة، أو خبيرها الكلاسيكي. تجاوز دور «الصحافي العادي» إلى مهمة حامل الرسائل إلى الشعب والمشارك في صناعة عقل النظام. وهي مهام رجال دولة.
لا يزال هيكل يؤدي دور الدولة الغائبة. ويراها هي الحال المطلق لتقود الأمة من ثبات عجزها. تخيّل هيكل أن ما عطّل مناقشة تقرير غولدستون هو العجز. لم ير القضية خارج ثنائية الإرادة (إرادة الزعيم القائد والدولة الرائدة، وعجز الحكام الحاليين وخفوت قوتهم الإقليمية).
ثنائية تُشعر هيكل بالأسى، إلى أن قال مرة: «الدولة تبخرت». قالها بشعور يمنع التفكير والأسئلة. ويدغدغ أحلام المحبطين واليائسين من تغيير الأحوال. لم تترك شحنات الأسى مجالاً للتفكير: هل هي الدولة التي شارك في تصميمها مع عبد الناصر؟ أم الدولة التي شارك في اقتناصها مع السادات من موظفي عبد الناصر؟ أم الدولة التي استبشر خيراً بقدوم مبارك ليكون نورها الساطع؟ هل هي دولة واحدة يتوارثها ورثة غريبو الأطوار؟ وهل البخار المتصاعد منها الآن، بخار نهاية أم بداية جديدة مع وارث جديد أكثر نزقاً؟ هل يكون الأمر أجمل إذا جاء من يستطيع تكثيف بخار الدولة لتعود دولة عبد الناصر؟ هل تَبخُّر دولة مبارك هو نهاية دولة الجنرالات؟ ماذا سيحدث بعدها؟ هل الحل الوحيد هو جنرال جديد يخرج من خلف البخار؟
سقف الخروج مرة أخرى، التاريخ في نظر هيكل. سقف منخفض جداً. واقعي ربما أو عاطفي يدغدغ أشواق المنتظرين عودة الدولة الغائبة. وحسب روايات منشورة، فإن اللواء عمر سليمان قال لقادة حماس: «لا تتعاملوا معنا على أننا فصيل فلسطيني». والجملة التالية كان من المفروض أن تكون «نحن الدولة العظمى في المنطقة».
هو حنين من داخل النظام نفسه إلى الدولة الغائبة. إنه بحث عن إرادة قادت العالم العربي في لحظات التحرر وفشلت قيادته في ما بعد ذلك. والفشل لا يتعلق فقط بالعجز أو الاستقالة من الدور. يتعلق بأشياء أكبر، وتتعلق بالرغبة المجانية في إبقاء الوضع من دون تحريك. إنه التواطؤ الذي يجعل الحكام العرب مزعوجين من محاكمة مجرمي الحرب في إسرائيل لأنه سيعرّي موقفهم من محاكمة البشير.
هذا مثال واحد يكشف أن التواطؤ، لا العجز، هو سر التكاتف لمنع المحاكمة. والأمر يحتاج فقط إلى حساسية جديدة أو خروج من أسر الدولة الغائبة. ورغم كل هذا يستحق هيكل الحسد الدائم.