عُرِّفَت الدولة اللبنانية بأنها دولة تفتقد شروط سيادتها الداخلية، بمعنى عدم امتلاك مؤسساتها للاحتكار القانوني لاستخدام القوة. الشرط الثاني لسيادة الدولة الداخلية هو احتكارها لإدارة العلاقات الخارجية. تفتقر الدولة اللبنانية في هذا المجال أيضاً إلى شروط ممارسة سيادتها الداخلية، إذ يتمتع أفراد الطبقة السياسية بحرية إقامة علاقات خارجية خاصة بهم
ألبير داغر *
تتيح الأدبيات النظرية في ميدان العلاقات الدولية، إظهار كيف أن النظام الدولي يمحض مختلف دول العالم شرعية قانونية (juridical statehood)، وبالتالي شروط البقاء، وإن كان البعض منها دولاً فاشلة. وتتيح من جهة ثانية، إظهار أن مبدأ سيادة الدولة لا ينفك يمثّل القاعدة التي تنظّم العلاقات الدولية، وإن كانت هذه السيادة تتعرّض لتحديات شتى. وتتيح من جهة ثالثة، تبيان كيفية استخدام اللاعبين المحليين للعلاقات الخارجية لضمان استمراريتهم السياسية (survival). الحرية التي تتمتع بها القوى السياسية اللبنانية في إقامة علاقات خارجية خاصة بها، تجعل من هذه القوى السياسية أدوات في أيدي قوى خارجية. وغالباً ما يتحول استدراج التدخل الخارجي إلى فتنة داخلية.

1. العلاقات الدولية ودورها في نشوء الدولة

أحد أهم شروط نشوء الدول، هو التوافق الدولي على قيامها. يقول كريستوفر كلافام إن أكبر دول العالم وأكثرها قوة، مثل إنكلترا سابقاً والولايات المتحدة، نشأتا بعد توافق دولي بشأنهما. الأهم في نشوء الدول الحديثة، في أوروبا أولاً، الحروب الدينية أو حرب الثلاثين عاماً، التي وضع انعقاد مؤتمر وستفاليا في عام 1648 حداً لها. وهو المؤتمر الذي أقر مبدأ سيادة الدولة، بمعنى سلطة الدولة الحصرية في حيزها الجغرافي، وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى.
وعند كلافام أن حقبة ما بعد الحرب العالية الثانية، التي شهدت صدور قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة، الرقم 1514 والرقم 1541 اللذين نصّا على استقلال المستعمرات، وحق تقرير المصير للشعوب الخاضعة للاستعمار، أعطت إمكان التحول إلى دول لكيانات لم تكن تمتلك مقومات الدولة.

استدرجت طريقة إدارة العلاقات الخارجيّة في لبنان منذ القرن التاسع عشر التدخّل الخارجي في الشأن المحلي

وقد حدد روبرت جاكسون نوعين من الدول بعد الحرب العالمية الثانية، كان المعيار في التمييز بينهما هو معيار السيادة. فهناك من جهة، الدول الغربية المكتملة شروط قيام الدولة لجهة قدرتها على ممارسة سيادتها الخارجية والداخلية، ومن جهة ثانية، الدول الجديدة التي عرّفها جاكسون بأنها شبه ـــــ دول (quasi-states). وقد عدّت سيادة هذه الدول «سلبية» (negative sovereignty)، بمعنى أن النظام الدولي هو الذي وفّرها لها، لا مقدرتها الذاتية على ممارسة السيادة.
وقد انتقل عدد دول العالم من 50 دولة في نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نحو 200 دولة في وقتنا الحاضر. وأصبح عدد من هذه الأخيرة يسمى خلال العقود الماضية دولاً فاشلة (failed states)، بمعنى عجزها عن بناء الدولة الذي هو سيرورة داخلية، تتيح لهذه الأخيرة أن تمارس سلطة فعلية داخل الحدود الوطنية، وأن تدافع عن نفسها في وجه الاعتداءات الخارجية. ويكتسب البعد الداخلي للسيادة أهميته من كونه يتناول علاقة الدولة بمواطنيها، ويتناول توفير الأمن للمواطنين، الذي هو الوظيفة الأهم للدولة.

2. التوافق الدولي ونشوء الدولة اللبنانية

كان نظام المتصرفية أول دستور لأول كيان سياسي لبناني حديث، توافقت القوى العظمى الأوروبية آنذاك مع السلطنة العثمانية على إنشائه.
لبنان الكبير نشأ هو الآخر نتيجة توافق دولي بشأنه، تم خلال مؤتمر فرساي بعد الحرب العالمية الأولى. وجاء نيل هذا الكيان للاستقلال عام 1943 نتيجة ظروف الحرب العالمية الثانية، التي سمحت لإنكلترا بفرض ما تراه على حليفتها فرنسا المهزومة والمحتلة أراضيها. أما بقاء لبنان كياناً موحّداً بعد عام 1975، فيعود إلى التزام المجتمع الدولي القواعد التي يقوم عليها النظام الدولي المكوّن من دول ذات سيادة، ولو أن سيادة البعض منها سلبية الطابع.

3. أهمية العلاقات الدولية لدول العالم الثالث

ينتقد كلافام نظرية العلاقات الدولية الرسمية التي ترى إلى العلاقات الدولية بوصفها علاقات بين دول متكافئة. ويرى أن الفهم الصحيح للعلاقات الدولية لدول العالم الثالث، ومنها دول أفريقيا بالتحديد، يستوجب الانطلاق من طبيعة الدولة فيها لتفسير نوع العلاقات التي تقيمها مع الخارج ومع النظام الدولي. وهي علاقات تمليها الحاجة للحفاظ على بقائها دولةً (politics of state survival). وتكون إدارة العلاقات الخارجية للدولة في هذه الحالة، معنيّة فقط باكتساب الدعم الدولي والموارد الدولية للحفاظ على مواقع الممسكين بالسلطة فيها. وبالنظر إلى حراجة أوضاع الدولة في بلدان العالم الثالث بوجه عام، فإن إدارة العلاقات الخارجية فيها تكتسب أهمية قصوى.
وقد انقسمت الخيارات التي اعتمدها الممسكون بالسلطة في دول العالم الثالث إلى ثلاث، أولها بناء دولة قادرة على ممارسة سيادتها تستطيع الحفاظ على مواقع القائمين عليها. وأدى ذلك في حالة الدولة الأفريقية إلى نشوء الدولة الاحتكارية (monopoly state) بعد الاستقلال، حيث احتكر القائمون على الدولة السياسة والشأن العام، وألغوا المشاركة السياسية وتداول الحكم. وتمثل الخيار الثاني بأن أقام الممسكون بالسلطة «دولة ظل» (shadow state)، تتكون من شبكات موالين لهم تختفي خلف الإدارات الرسمية للدولة، وتكرّس لخدمة مصالحهم وضمان بقائهم، مع الاحتفاظ بمؤسسات الدولة الرسمية مؤسساتٍ شكلية. وهذا الخيار هو التجربة الأكثر انتشاراً في بلدان العالم الثالث. ومثلت الحالة الثالثة، واقع انهيار الدولة إلى حد عدم تمكن الممسكين بالسلطة من فرض سيطرة الحكومة إلا على حيّز محدود من النطاق الجغرافي للدولة، فيما احتلت ما بقي من الحيّز الوطني سلطات «أمر واقع» صادرت صلاحيات الدولة ومهماتها للانتفاع بها.
واستخدمت العلاقاتِ الدولية لتعويم الدولة كياناً موحّداً كلما كان هناك تماهٍ بينها كدولة وبين القائمين عليها. واستخدمت العلاقات الدولية لتعزيز إمكانات «دولة الظل» في الحالة الثانية. وأصبح هناك أكثر من إدارة للعلاقات الخارجية، حين بات ينازع الدولة في هذا المجال، الخارجون عليها من أمراء الحرب والزعماء الانفصاليين وغير ذلك.
استدرجت طريقة إدارة العلاقات الخارجية في لبنان منذ القرن التاسع عشر التدخل الخارجي في الشأن المحلي. وأدى هذا التدخل دوراً رئيسياً في محنة لبنان المستمرة. وتعود بداياته إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد رصد مروان بحيري ثماني مناسبات في تاريخ لبنان منذ أواخر القرن الثامن عشر، كانت مناسبات حرب وتدخل خارجي في الشأن المحلي. ووجد أن التدخل الخارجي لم يؤدِّ إلى حرب أو فتنة داخلية في أربع حالات منها، فيما أربع حالات أخرى هي المواجهات الطائفية لأعوام 1840 و1860 و1958 و1975، أظهرت ارتباطاً بين التدخل الخارجي والفتنة الداخلية. وقد استخلص من ذلك أنه «ربما كانت هناك «قاعدة» أو «قانون» في تاريخ لبنان يربطان بين التدخل الخارجي والحرب الداخلية».

4. الطائفية واستدراج التدخل الخارجي والفتنة الداخلية في لبنان قبل الاستقلال

أهم ما في التاريخ اللبناني، سقوط سيادة الدولة العثمانية على المشرق العربي، ومنه لبنان، بعد عام 1840. أسهمت في ذلك الهزيمة التي مُني بها العثمانيون في عام 1831 على يد إبراهيم باشا المصري. وقد خرج الجيش العثماني من هذه البلاد نحو عقد من الزمن، ثم عاد إليها بقوة الحلفاء الأوروبيين، ومن خلال تسليح السكان المحليين الذين شاركوا في إخراج إبراهيم باشا. جاءت البوارج الإنكليزية آنذاك، وألقت بـ 40 ألف قطعة سلاح على الشاطئ لتسليح الأهالي. واكتشف الجيش العثماني بعد عودته إلى لبنان واقعاً جديداً، يختصره أسامة مقدسي بحادثة معبّرة. فحين قبض عسكر السلطان في جونيه على شقيق واحد من بطانة القنصل الفرنسي، حرك هذا الأخير إحدى البوارج الفرنسية المرابطة في مرفأ بيروت، وأجبر السلطات على إطلاق سراح الشخص المذكور. أصبحت الدولة العثمانية تتقاسم السيادة على المنطقة مع القوى العظمى الأوروبية. وأصبح التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للمنطقة واقعاً قائماً.
ويمكن أن نعتمد عام 1773 نقلاً عن بحيري للتأريخ لأول تدخل خارجي في لبنان جاء بناءً على طلب رسمي له من أفرقاء داخليين. طلب آنذاك الأمير يوسف من البوارج الروسية المرسلة من الإمبراطورة كاترين الثانية أن تقصف بيروت وتحصينات الجزار باشا فيها لإضعاف خصمه.
لكن نقطة البداية لحقبة بات عمرها الآن قرنين، من التدخل الخارجي واستخدام الانتماء الطائفي لتأجيج الفتنة الداخلية وفّرتها حملة إبراهيم باشا المصري. استخدِم الموارنة في صراع السلطة الجديدة مع انتفاضة الأعيان الدروز ضدها. كانت تلك المرة الأولى التي يوضع فيها هؤلاء في مواجهة على أساس طائفي مع نخبة كانت لديها على الدوام أسباب للثورة على السلطة المركزية. قيل إن الأمير بشير الثاني هو الذي أوحى لإبراهيم باشا اعتماد هذا الخيار. ولم يكفِ إعلان ممثلي الطوائف وحدتهم ضد إبراهيم باشا في عام 1840 ومشاركتهم في إخراجه من لبنان، لإزالة ما كانت قد أقامته الحقبة السابقة من تأسيس لعوامل الفتنة الداخلية ذات الطابع الطائفي.
ترسخت أكثر عناصر الفتنة الداخلية ذات الطابع الطائفي خلال العشرين سنة التي أعقبت خروج إبراهيم باشا، وسبقت مذابح عام 1860. قُسِّم جبل لبنان إلى قائمّقاميتين على أساس طائفي، بعد الصدامات بين الدروز والموارنة في عام 1841. أدّت الإرساليات الأجنبية، التي كيّفت أنظمة التدريس فيها لاستقطاب أبناء النخب، دوراً في تكوين وعي هؤلاء الناس، وخصوصاً أنّ العثمانيين غابوا تماماً عن الشأن التربوي. وشهدت الحقبة ربطاً لاقتصاد لبنان بحاجات مصانع الحرير الطبيعي في ليون بفرنسا. وصدرت كتابات أعدها رجال دين تؤسس لعلاقة عضوية للموارنة مع فرنسا. وشهدت المؤسسات البروتستانتية نمواً لنفوذها في المناطق الدرزية. وهي عناصر يرى أسامة مقدسي أنها أسست لوعي طائفي سيُستثمَر لإيقاد الفتنةلكن الأهم في تلك الحقبة، هو تراجع سلطة العثمانيين الذي جعل النخب المحلية قادرة على أن تدخل في علاقات استزلام مع القوى العظمى. لم تقترن عودة السلطة العثمانية إلى لبنان باعتراف النخب المحلية بها. حاول أفراد هذه النخب أن يلتحقوا بهذه أو تلك من القوى الأوروبية، وأن يقيموا علاقات غير رسمية معها. وكان الأوروبيون بحاجة إلى إقامة علاقات مع المجموعات المحلية لتبرير تدخلهم في السلطنة. وأدى ضعف السلطة المركزية والاستفزاز الطائفي المتبادل وتحرك الملتحقين بانتفاضة طانيوس شاهين في اتجاه مناطق جنوب جبل لبنان المختلطة طائفياً، إلى اندلاع الفتنة وحصول المذابح الطائفية في عام 1860. وأعطت هذه الأخيرة مسوغاً لحصول التدخل الأجنبي الذي أتاح بالاتفاق مع السلطنة إرساء أسس المتصرفية.
أعادت المتصرفية للدولة قدرتها على ممارسة سيادتها في الحيز اللبناني. لكنها قامت في الأساس على بناء للسلطة من خلال توزيع مواقعها على قاعدة الانتماء الطائفي. وجد هذا الأمر ترجمته في تمثيل كل طائفة بمندوبين عنها في مجلس الإدارة. استمر إذاً، وتأكد المدخل الطائفي لتقاسم السلطة وممارستها، مقابل استعادة الدولة لسيادتها الداخلية في مواجهة السياسيين.
الأمر نفسه تكرر خلال حقبة الانتداب. اعتمد التوزّع الطائفي مدخلاً لتقاسم السلطة والتمثيل السياسي بين أطراف النخبة. امتلكت الدولة المنتدبة بالمقابل، شروط سيادتها الداخلية تجاه القوى السياسية، وخصوصاً احتكارها القانوني لاستخدام القوة. لم تكن أيٌّ من القوى المحلية تجرؤ على أن تنازعها في ذلك. لكن السلطة المنتدبة استعانت برموز الإقطاع المحلي لفرض النظام في مناطق الأطراف، وأتاحت لإقطاع الأرض أن يرسّخ أقدامه من خلال إفادة أفراده من مسح الأراضي الذي أُجري خلال تلك الحقبة. سمحت الدولة المنتدبة من جهة أخرى، بنشوء منظمات شبه عسكرية سيكون لها في ما بعد دور كبير في منازعة الدولة على سيادتها خلال حقبة ما بعد الاستقلال.

5. التدخل الخارجي والفتنة الداخلية بعد الاستقلالكانت الخيارات المتاحة للدول الضعيفة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية محدودة في ميدان السياسة الخارجية. كان عليها أن تختار بين أمرين: إما عدم الانحياز، وإما أن تنسج علاقة زبونية مع قوة عظمى. يوفّر الخيار الأول استقلالية في القرار يمكن أن تفيد منه البلدان المعنية لـ«بيع» أو مبادلة مواقف معينة تهمّ الأفرقاء الدوليين مقابل منافع يوفرونها لها. أما الخيار الثاني فيوفر منافع أهمها الدعم المالي والدعم العسكري الذي توفره الدول العظمى لزبائنها. بل قد تصبح دولة عظمى رهينة نوعاً ما لدى الدولة الفاشلة التي هي زبونتها. وقد كانت الميزة الأساسية لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى عام 1990، اصطفاف بلدان العالم ضمن معسكري الحرب الباردة. رأى الأكاديميون هذا الواقع الدولي محدداً للسياسات الخارجية للدول العظمى وغير العظمى.
يستعيد مروان بحيري التمييز الذي اعتمده مالكوم كر (Kerr) بين «مقاتلي الحرب الباردة» (cold warriors) و«الإقليميين» (regionalists) داخل النخبة السياسية الأميركية المعنية بإدارة السياسة الخارجية لهذا البلد. يمثل الأولون فئة المتشددين الذين يرون أن على أميركا أن تفرض أجندتها الدولية دون إقامة كبير اعتبار للاعتراضات تجاهها. ويرى الآخرون أن على أميركا أن تكيّف سياساتها للأخذ في الاعتبار الديناميات والخصائص المحلية للبلدان المختلفة. وتنطلق الباحثة جندزير من تقرير وكالة الاستخبارات المركزية لعام 1948 عن الدول العربية، بوصفه نصاً أكاديمياً أساسياً لفهم الأهداف الأميركية في العالم العربي آنذاك وفي ما بعد. وترى في تقرير مجلس الأمن القومي لعام 1952 وثيقة مكملة للنص الأول. يختصر النصان العلاقة بالبلدان العربية إلى نقطتين: ضمان ضخّ النفط وكبح الخطر الشيوعي. وغالباً ما افترضت الإدارات الأميركية في ما بعد أن القومية العربية والخطر الشيوعي يعنيان الشيء ذاته.
وترى الباحثة أن تقرير السي آي إيه هو الأول في ما يخصّ لبنان وربما الأفضل، في الإضاءة على ارتباط الواقع الداخلي المتمثل بالانقسام الطائفي في أوساط النخبة، بالواقع الخارجي الذي يجسده الاصطفاف ضمن محاور متقابلة، والاستعانة بهذه الاصطفافات في الصراع الداخلي على السلطة. ويظهر هذا الواقع وجود أكثر من سياسة خارجية واحدة في لبنان. أي يظهر وجود سياسات خارجية عائدة لمستويات ما دون مستوى الدولة (substate foreign policies)، وفقاً لتعبير بول سالم تدخل في منافسة مع السياسة الرسمية لهذه الأخيرة.

تراجعت سيادة الدولة حين قبل رئيس الجمهورية أن تؤدي الميليشيات الطائفية دور رديف للجيش عام 1969

ويرى تقرير السي آي إيه لبنان أقرب بلد عربي إلى الغرب والأكثر تفهماً لسياسات بلدانه وتقبلاً للسير فيها من دون ممانعة. ويشير نص بحيري بدوره إلى اعتماد لبنان سلطةً رسمية في علاقات دولية جعلت الأميركيين يعدّونه الأكثر التزاماً بأجندتها في مواجهة الاتحاد السوفياتي بين كل دول الشرق الأدنى.
يمكن انطلاقاً من ذلك، فهم حقبة الخمسينيات والحرب الأهلية لعام 1958. وقد اصطبغت السياسة الخارجية الأميركية آنذاك بالتشدد. وكانت إدارة الرئيس ترومان قد اعترفت قبل ذلك بدولة إسرائيل بعد عشر دقائق على إعلان قيامها. ورسم جون فوستر دالاس وزير خارجية الرئيس آيزنهاور سياسة احتواء للاتحاد السوفياتي، انخرطت فيها اليونان وتركيا وإيران. لكن هذه السياسة واجهت صداً لها من الدول العربية. وانفرد لبنان بدعم هذا المشروع الذي كان المراد به احتواء عبد الناصر، والذي تسمى باسم «حلف بغداد». وأدى الاصطفاف اللبناني الرسمي ضمن المحور المذكور دور المفجّر للفتنة الداخلية في لبنان. وعمد الأميركيون لإنزال المارينز على شاطئ بيروت، واستطاعوا من خلال ذلك الإبقاء على النظام القائم، واستباق أي تغيير للستاتيكو في عموم المنطقة. وهو الأمر الذي كانت أميركا ترغب في استمراره.
خلال الحقبة التي امتدت من الستينيات إلى منتصف السبعينيات، أكدت الدولة اللبنانية أنها لم تكن حريصة على سيادتها الداخلية. لم يستثمر الممسكون بالحكم الستاتيكو الذي قام بعد أحداث عام 1958 لتثبيت هذه السيادة. استمرت الخيارات الاقتصادية على ما كانت عليه خلال الخمسينيات، معطية الأولوية للقطاع المصرفي ومصالح أصحاب الريوع المالية، ومكرسة نوعاً من التبعية للخارج زاد هشاشة الاقتصاد. وبدت هذه الهشاشة في أوضح صورة حين سحب الكويتيون ودائعهم من مصرف إنترا لمعاقبة لبنان لعدم قبوله استقبال مزيد من الفلسطينيين. أدى ذلك إلى انهيار المصرف المذكور، وحصول أزمة مصرفية سهّلت شراء أهم مصارف بيروت من مؤسسات أجنبية. لم يعد القطاع المصرفي بعد أزمة عام 1966 لبنانياً إلا بالاسم.
وأسهم الممسكون بالسلطة بتراجع سيادة الدولة، حين قبل رئيس الجمهورية أن تؤدي الميليشيات المسلحة الطائفية في بلد منقسم طائفياً دور رديف للجيش في أحداث عام 1969. ولعب خلَفه الدور نفسه حين أعطى دوراً للميليشيات ذاتها في مواجهات عام 1973 مع الشارع اليساري والفلسطينيين.

6. التدخل الخارجي والفتنة الداخلية في الحرب الأهلية الكبرى لعام 1975

في القراءة التي يقدمها مايكل جونسون للتجربة اللبنانية منذ الاستقلال، يرى أن النظام النيو ـــــ بتريمونيالي، القائم على دور «رؤساء شبكات المحاسيب» الذين هم في الوقت عينه «أناس يفرضون أنفسهم بالقوة»، كان يتمتع بما يكفي من المقومات التي تتيح له الاستمرار بالصيغة التي آل اليها مع الاستقلال، لو لم يتعرض لضغوط خارجية شديدة الوطأة. ينسب جونسون إلى حركة كمال جنبلاط التي توسلت الدعم الفلسطيني لقلب موازين القوى الداخلية المسؤولية الأولى في انهيار النظام. ويقرّ جوزيف أبو خليل بمسؤولية حزب الكتائب في تحويل النزاع إلى صدام داخلي، وتوفير فرصة تحويل هذا الأخير إلى «حرب تخريبية». ويرى ايفلاند، مستشار السي آي إيه السابق، في سياسة «الخطوة خطوة» التي اعتمدها كيسنجر، والتي عنت رفض مبدأ الحل الشامل للصراع العربي الإسرائيلي، السبب المباشر لنشوب الحرب الأهلية في عام 1975. لم تُبقِ هذه السياسة للفلسطينيين غير خيار المواجهة. وهذا ما دفع منظمة التحرير الفلسطينية إلى الواجهة، وجعل لها دوراً لم يعد ممكناً إنكاره. يقول ايفلاند إنه أراد التقاعد في لبنان في بداية عام 1975، وإنه ذهب يعرض مشروع المعهد الفني الذي كان ينوي إنشاءه على أحد الأقطاب الكبار، ووجد شخصاً مهموماً بالتحضير للحرب الأهلية التي كانت ستبدأ بعد أسابيع من ذلك اللقاء.
(غداً: حقبة السلم الأهلي والتدخّل الخارجي بعد 2005)
* أستاذ جامعي