علاء اللامي *لخّص صحافي متخصص بالشؤون التركية نتائج الاجتماع الثلاثي الأخير في أنقرة لوزراء المياه في تركيا والعراق وسوريا بالقول إن الاجتماع الذي عقد لعدة ساعات، انتهى برفض تركيا القاطع لتوقيع أيّة اتفاقية لتقاسم المياه. الرفض التركي لتوقيع هذا الاتفاق، أو أيّ اتفاق آخر، حتى ذلك الذي جرى التوصل إليه في الاجتماع الأخير، لتأليف لجان فنية مشتركة لمراقبة وحساب كميات المياه المطلقة نحو سوريا والعراق، يقوم على المزاعم التركية التي لا سابق لها، والقائلة إن نهري دجلة والفرات ليسا نهرين دوليين بل هما نهران تركيان عابران للحدود.
نعتقد أن جذر الأزمة يكمن هنا بالضبط: أي في الخروج التركي على القانون الدولي.
لقد بلغت الغطرسة التركية أوجها هذه المرة بإفشال اجتماع أنقرة. فقبل أن يُعقد الاجتماع بساعات قليلة، وجّه وزير الطاقة التركي تانر يلدز إهانة قاسية إلى ضيوفه بأن استبق الاجتماع بالقول إن بلاده لن تطلق المزيد من المياه نحو سوريا والعراق، لأنها بالكاد تفي باحتياجاتها الداخلية. وادعى معلومة غريبة يريد لنا أن نصدقها في عصر الأقمار الاصطناعية والانترنت، مفادها أنّ سدّ أتاتورك العملاق لم يعد فيه الكثير من المياه، فيما فسّر البعض كلامه بأن الأتراك يخشون أن يؤثّر إطلاق المياه نحو العراق في توليد الطاقة الكهربائية من السد.
الوزيران العراقي والسوري ابتلعا هذه «التحية» التركية على مضض، ولم يجرؤا على الانسحاب من الاجتماع، على أمل الخروج بنتيجة ما. غير أن التشدّد التركي بلغ ذروته حين انسحب وفده من الاجتماع بمجرد أن طالب الجانب العراقي بزيادة حصته من المياه، كما صرّح النائب جمال البطيخ عضو لجنة المياه في البرلمان العراقي نقلاً عن أعضاء في وفد بلاده.
وزير البيئة التركي، فيصل أوغلو، كان أكثر كرماً من زميله، فقال إنّ تركيا ستحاول، (نعم، ستحاول، مجرد محاولة)، زيادة الكميات المطلقة من المياه نحو سوريا والعراق! وهذا الوعد من السيد أوغلو ليس جديداً، فقد تكرر عشرات المرات شفهياً وتحريراً على ألسنة كبار المسؤولين الأتراك. ويمكن السيد طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي أن يدلي بشهادته وتجربته مع الوعود التركية للرأي العام بهذا الخصوص!
فشل الاجتماع الوزاري الثلاثي الأخير في أنقرة فشلاً ذريعاً في تحقيق أي هدف مركزي. وهذا يعني أن الحكومة التركية تخلت عن قفّاز الحرير الدبلوماسي، وأعلنتها حرب إبادة حقيقة، على العراق خصوصاً. وعلى هذا، ينبغي للحكم العراقي القائم اليوم أن يردّ على هذا التحدي بما يتناسب وخطورته، فيستعد لتدويل هذه المشكلة الكارثية، ورفعها بسرعة إلى الأمم المتحدة والهيئات الدولية المتخصصة، ومنها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، ويتمسّك بحقه في الرد الدفاعي والتهديد بتدمير السدود. وهذه ليست سابقة تاريخية، فالحكم المصري في عهد السادات ومبارك هدّد مراراً دول حوض النيل بهذا الخيار، والرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر هدد سنة 1975 الحكم السوري بتدمير سدّ «الطبقة» حين تم تحويل أغلب مياه الفرات إليه لملئه، مما سبب حالة جفاف مريعة آنذاك. وعلى هذا، فمن العاجل والضروري أن يبادر الحكم العراقي، رغم تحفظاتنا الكثيرة والشديدة على طبيعته السياسية، وتحالفه مع الاحتلال الأجنبي، إلى تدويل هذا الملف، ومطالبة الهيئة الأممية بالإشراف المباشر والعملي عليه، من خلال إرسال بعثة رسمية دائمة إلى العراق لمتابعة التطورات الخطيرة على الأرض، التي تنبئ ببلوغ البلد حالة الكارثة الوطنية الشاملة.
المرجَّح أن تركيا، وإيران كذلك، التي لا تقل عدوانيتها في هذا المجال عن الأولى، سترفضان المثول أمام محكمة العدل الدولية، كما رفضت تركيا توقيع اتفاقية «الأنهار غير الملاحية» التي أشرفت عليها الأمم المتحدة في التسعينات من القرن الماضي، حول تقاسم المياه، والتي تعتمدها هذه المحكمة ضمن ما تعتمد من اتفاقيات وقوانين. والواقع، فإن النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية يشترط لتحقيق ما يسمّى «اختصاص الإلزام الأساسي» اعتماد أحد الأساليب التالية التي نصت عليها المادتان 36 و37، للتعبير عن إرادة الدولة باللجوء إلى المحكمة من أجل منازعاتها القانونية. وحتى على افتراض رفض تركيا أو إيران الموافقة على التقاضي أمام محكمة العدل الدولية بموجب اختصاص المحكمة الإلزامي، حيث تشترط المحكمة موافقة الطرفين المدعي والمدعى عليه للتقاضي أمامها، فإن الأمر لا يعدّ منتهياً، إذ ثمة ما يُسمّى «الاختصاص الاستشاري» لمحكمة العدل الدولية، وبموجبه تختص هذه ـــــ إضافةً إلى اختصاصها القضائي ـــــ باختصاص استشاري عبر إصدار «رأي» بشأن المسائل القانونية التي تحيلها عليها الهيئات المفوضة بمثل هذه الإحالة بموجب المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة، وهي الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو الوكالات المتخصصة المرتبطة بها. وبموجب هذا الخيار، وبعد أن يرفع العراق دعوى ضد تركيا أو إيران أو كلتيهما، تتذاكر المحكمة في جلسة سريّة ثم تصدر رأيها في جلسة علنية بعد إخطار الأمين العام وممثلي الأمم المتحدة وسائر الدول والمؤسسات الدولية ذات العلاقة المباشرة بالمسألة المطروحة على بساط البحث. ولها أن تطلب إلى بعض هذه المراجع المعلومات التي تلزمها في إبداء رأيها. والحقيقة، فلن يكون رأيها أو حكمها ملزماً إذا لم يرد نص صريح على ذلك، كما يشاهد فعلاً في بعض الاتفاقات الدولية التي تعقدها المراجع المخوّلة إبداء الرأي إلى المحكمة. هذا من الوجهة القانونية الصرف، أما من الناحية الأدبية والمعنوية، فإن لهذا الرأي دائماً وأبداً وزنه الدولي الذي يفرض ضرورة مراعاته. وقد لجأت السلطة الفلسطينية إلى هذه المحكمة لاستصدار رأي استشاري ضد الجدار الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية، وهو ما حصل، ويمثل وثيقة إدانة لسياسة إسرائيل، ورفع الشرعية عن الجدار لا معادل لهما.
إضافةً إلى ذلك، يسمح النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية إذا رفضت الدول المدعى عليها الإذعان للحكم أو الرأي الاستشاري، يسمح للطرف المدعي بالتوجه إلى مجلس الأمن الدولي، واستصدار قرار يزيل الضرر الذي ألحقه به الطرف الرافض لحكم، أو لرأي محكمة العدل الدولية. وسيكون العراق عندها مزوّداً بحكم أو رأي استشاري دولي ناجز يسهّل له مهمته كثيراً ويضيّق الخناق على الطرف المعتدي.

يمكن إدخال تجفيف النهرين في خانة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانيّة

أما المحكمة الجنائية الدولية، فهي تختلف عن محكمة العدل الدولية لأنها لا تشترط وجود موافقة مسبّقة من جانب الطرف المدعى عليه، بل يكفي أن ترفع جهة في الدولة المدعية أو أية محكمة فيها الدعوى إلى المحكمة الجنائية الدولية. وبمراجعة النظام الأساسي لهذه المحكمة الدولية، نتعرف على مفهوم ومصطلح جريمة الإبادة الجماعية. فهي تعني أياً من الأفعال الآتية إذا ارتكبت بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً:
1 ــ قتل أفراد الجماعة. 2 ــ إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.
3 ــ إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية بقصد إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً.
4 ــ فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة. 5 ــ نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
ويمكن بكل تأكيد اعتبار جريمة تجفيف دجلة والفرات وتصحير العراق وتدمير الزراعة وإحداث مجاعة فيه، ضمن مشمولات البند الثالث. كما يمكن اعتبارها ضمن مشمولات البند العاشر من الأفعال التي يشملها مفهوم ومصطلح «الجرائم ضد الإنسانية» أيضاً، ويقول النص الحرفي لهذا البند: الأفعال اللإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تسبّب عمداً معاناة شديدة أو أي أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية.
ومن الطبيعي أن تدخل جريمة تجفيف نهري دجلة والفرات، وما سيترتب عليها من أضرار فادحة وإبادة للبشر والحيوان والنبات، ضمن باب جرائم الاعتداء التي يتحمل مسؤوليتها الأفراد الحاكمون، وأصحاب القرار في الحكومتين التركية والإيرانية. كما أن جريمة الاعتداء الواردة في القانون الأساسي للمحكمة غير واضحة أو محدّدة، ولهذا فهي يمكن أن تشمل تشكيلة واسعة من نماذج الاعتداءات، كقطع المياه عن دول المصبّ بواسطة السدود العملاقة أو تهديد سلامة الشعوب بفعل ذلك.
والخلاصة أن مطلب تدويل قضية أو مأساة تجفيف دجلة والفرات، ورفعها إلى محكمة العدل الدولية وإلى المحكمة الجنائية الدولية، بات مطلباً ملحّاً ولا مندوحة عنه. بل هو الطريق الوحيد والأسلم لإنقاذ العراق وطناً وشعباً وثروات من العدوان التركي والإيراني. وعلى الحكم القائم اليوم المبادرة وبسرعة إلى إطلاق عملية التدويل والمقاضاة الدولية هذه، والتوقيع بالموافقة على ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، الذي سبق لحكومة أياد علاوي أن وقعته ثم سحبت توقيعها بعد أيام نتيجة ضغوط من الولايات المتحدة، (التي سحبت هي الأخرى ومعها إسرائيل توقيعهما بالموافقة على الميثاق المذكور). فإذا كانت الحكومة العراقية الحالية قد بادرت إلى تدويل قضية التفجيرات الإجرامية ليوم «الأربعاء الدامي» بعد مقتل مئة عراقي وإصابة نحو ألف آخرين بجراح، فكم بالأحرى ستكون ملحّة وخطيرة جريمة اغتيال الملايين من العراقيين، بل واغتيال العراق ذاته وتحويله إلى صحراء شاسعة تتناثر فيها الهياكل العظمية البشرية؟
* كاتب عراقي