عبد الأمير الركابي* يشتمل تشكل العراق الوطني الحديث والمتواصل على ثلاث مراحل. الاولى، استمرت منذ القرن السابع عشر حتى عام 1920، والثانية استغرقت الفترة من 1920 حتى 2003، أما الفترة الثالثة، الحالية، فتبدأ بعد الاحتلال وتأخذ بالتبلور اليوم، أي بعد قرابة ست سنوات من الاحتلال.
انبثقت المرحلة الاولى من قلب عملية الانهيار الطويل، الشامل، الذي عم البلاد بعد سقوط بغداد عام 1258. فقد راحت عملية الانحدار الرهيب تتراجع على مشارف القرن السابع عشر، ومن يومها، أخذ بالنمو أول أشكال العراق الحديث اجتماعياً ومجتمعياً، من جنوبه باتجاه شماله (كما هي القاعدة التاريخية الثابتة عبر الدورات الثلاث)، مع بدايات تشكل «الاتحادات القبلية» ومركزها «المنتفك»، وصولاً الى عاصمة قيادتها الدولة ـــــ المدينة القبلية «سوق الشيوخ».
هذه الفترة من تاريخ التشكل الوطني الحديث، عرفت أيضاً تطوراً هاماً تبع ظهور القيادة العشائرية ودولة المدينة القبلية الأولى. فقد نمت لاحقاً في أرض السواد قيادة وطنية أعلى من الأولى، تمثلت في الدولة المدينة المقدسة ـــــ النجف ـــــ فتكرر سياق من نموذج الدولة المقدسة التاريخي «اريدو» الموغلة في القدم، والمتكررة إبراهيمياً (أي عراقياً) بصورة المدينة المقدسة (مكة، حول الكعبة، بيت الله). وهذه من الخاصيات التاريخية العراقية التي تستوجب عرضاً أوسع ليس هنا مجال بحثه، إلا أن النجف الحالية التي راحت تتكامل كمركز قيادة وطنية منذ القرن الثامن عشر، هي صيغة الدولة ـــــ المدينة التي تماثل القيم والمفاهيم المطابقة لبحر الوحدات المشاعية المسلحة والمقاتلة في أرض السواد، وهي نموذج قيادة «دولة لادولة» تستجيب لمميزات تكوينية وبنيوية عريقة لا تتيح قيام الدولة المنفصلة عن المجتمع. فالدولة في العراق تقوم خارج المجال الإنتاجي الى الشمال، بعيداً عن المشاعات الزراعية المقاتلة في الجنوب، وتنشأ كقوة عسكرية أو سلالية ملتحمة ومتضامنة، تتخذ من المدن المسلحة المحصنة أقوى تحصين ممكن، مركزها المنفصل، غير المنبعث من تضاعيف الكتلة المنتجة، فيما تظل الاخيرة تحتفظ دائماً بقيمها ومؤسساتها المطابقة، واستقلاليتها ازاء غزوات الحكومة القائمة في الاعلى، والتي تظل تشن الغزو لاستحلاب الريع، من دون أن تفلح في تحقيق الاختراق لبنية المجتمع المنتج المساواتي المقاتل. ومن قيم الدولة اللادولة من أسفل، قام نموذج حكومة النجف/ اللاحكومة، وابتدعت صيغة التقليد والاجتهاد التي لا مثيل لها، ولا أصل سوى خاصيات محيطها. فما نشأ في النجف هو مثال مأخوذ من خاصيات القبيلة المساواتية المشاعية العراقية، وتكوينها الداخلي، وأشكال تحقق السلطة والوظائف وتوزيعها داخلها.
طريقة انتخاب المجتهد الاكبر في العراق، ونموذجه الشيعي العراقي الحديث، تماثل تماماً طريقة «الصيتة» في انتخاب شيخ العشيرة في الوحدات المشاعية الزراعية. كما يحاكي التقليد صلة الشيخ بأبناء القبيلة، بينما يجسّد جمع المثقفين الدينيين، سكان المدينة شبه الأفلاطونية (منحهم لونجريك في كتابه الهام «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث» لقب دكاترة في القانون)، يجسّد هؤلاء موقع «العوارف»، وقد تجمعوا في مكان بعينه، لا كما يعيشون وسط قبائلهم متفرقين. كما يستجيب موقف الامتناع عن التعامل مع الحكومات لجوهر إرادة المشاعات القبلي وممارستها التقليدية، وهو مفهوم انتصر فيه تيار «القطيفي» ضد مفهوم «الكركي» منذ القرن الخامس عشر. والقطيفي كان في النجف، وظل فيها ممتنعاً عن خدمة السلاطين، بينما انتقل الكركي ليخدم الصفويين، ما أثار في حينه نقاشاً اشتهر بين الاثنين الى أن تبلور لاحقاً وترسخ لمصلحة المفهوم العراقي المشاعي المساواتي، مفهوم اللادولة التاريخي، المناهض للدولة المركبة فوق المشاعات الزراعية المقاتلة.
نمت في أرض السواد قيادة وطنية تمثلت في الدولة المدينة المقدسة ــ النجف
ينتهي هذا الطور عند سنة 1920، مع الثورة الوطنية الكبرى، وهي حدث تاريخي اكتسب خاصيات «وطنية شاملة» ومدوّية، تعدت منطقة السواد التي عرفت قبل ذلك عشرات، لا بل مئات الانتفاضات المسلحة والعصيانات والتمردات، على مدى ثلاثة قرون، كانت أشملها، والبروفة الاقرب لثورة العشرين من بينها، ما سُمّي «الثورة الثلاثية» عام 1787، وشملت العراق من بغداد الى البصرة، وحررته لفترة من سلطة المماليك وقتها. وكانت ملامح الامتداد شمالاً قد ظهرت، بينما تزايدت علامات تكسر وتراجع العزلة بين المناطق المختلفة، بدلالة انتقال مركز المجتهد الاكبر من النجف الى سامراء، كما فعل السيد حسن الشيرازي، بالإضافة إلى مظاهر أخرى عديدة، مما أطلق مع انفجار الثورة ونتائجها روحاً توحيدية هائلة، برّرت قيام الدولة والكيان الواحد، والحركة الوطنية المعاصرة، من دون أن تتوافر مقوّماتها الاجتماعية والمفهومية.
تميزت المرحلة الثانية 1920/ 2003 بطغيان الأفكار المستعارة الأوروبية، في مجال الدولة وبنائها، وفي مجال الحركة الوطنية المعاصرة، فيما امتازت الفترة الاولى السابقة على العكس بالطغيان الكامل للخصائص التاريخية والمحلية، فلم يعرف العراق حتى عام 1920 أية تأثيرات خارجية فعالة، لا أوروبية ولا من المحيط (الوهابية والصفوية مثالاً). وقد تمكن العراق وقتها من ابتداع نموذجه الوطني الخاص، بناءً على بنيته، الى أن انتصر نموذجه شيعياً وصار التقليد والاجتهاد العراقي، والحوزة، الصيغةَ المعممة المعتمدة على امتداد العالم الشيعي حتى اليوم، فيما بلورت الفترة القبلية الحديثة مثلها قبل ذلك، وجسّدت نموذجها عبر ما يشبه الأسطورة المعاصرة (حمد آل حمود ـــــ حسن الصويح)، وهي رواية واقعية مُؤسْطرة، تؤدّي فيها الشاعرة العظيمة «فدعة»، أخت حسن الصويح، دور الراوي لعلاقة تذكّر بعلاقة انكيدو وجلجامش في الملحمة الشهيرة.
عاش العراق لما يقرب من 82 عاماً في ظل الدولة المركزية المستعارة من حيث التكوين والبنية، بينما كانت الافكار الحديثة والحركة الوطنية وأحزابها تمارس قراءة العراق المعاصر والتعامل معه باستبعاد كلي لخاصياته التاريخية. وفيما كانت القوى المذكورة تتصور وتتصرف على أساس أن العراق قد اكتمل تكوينه الوطني، وقامت دولته التي تمثل نصابه التاريخي، أثبتت الوقائع أن الافكار والمشاريع المذكورة لم تكن تمثل سوى مرحلة من مراحل التشكل التاريخي قيد التجاوز. وعاشت الدولة المركبة بمبررات مستعارة (عصرية)، حالة استحالة، شملت تجربتها الاولى 1921/1958، ونفياً للاستحالة بالقسوة والإرهاب بين 1968/ 2003. إلا أن القوى العصرية تمتعت بقدر كبير وملحوظ من الانتشار والفعالية لا تشبه قرائنها في أي مكان من العالم العربي، وذلك لم يكن انعكاساً للتبلور الوطني المفهومي والتاريخي، بل على العكس، نجم عن قوة دفع الديناميات الوطنية من جهة، مع فقدان التبلور الوطني وغياب تطابق الإطار السياسي والمفهومي مع الخاصيات التاريخية.
الآن، وبعد ست سنوات على الغزو الأميركي، وتداخل المشاريع وفوضاها، وفعل الافكار الباقية من المرحلة السابقة مع انبعاث الاسبق منها، في ظل انهيار الدولة، تبدأ المرحلة الثالثة بالنمو. ومرة أخرى، ينتقل العراقيون من مسارات الفناء إلى التشكل الجديد. حدث ذلك في المرحلة الاولى في القرن السابع عشر، عندما غادر العراق مسارات الفناء التي عمت البلاد منذ سقوط بغداد، بحيث انحدر عدد السكان من 31 مليون نسمة أيام العباسيين (وحسب آراء وتقديرات متواترة) إلى ما يقل عن مليون نسمة. الآن يرتفع العراقيون فجأة فوق الطائفية والمحاصصة والفدراليات، ويميلون إلى الوحدة الوطنية، والى الدولة المركزية الديموقراطية، إلى ما بعد الدكتاتورية، وما بعد الطائفية وما تمثّله «العملية السياسية الأميركية». ظهر ذلك إبان الانتخابات المحلية التي قامت عند بداية العام، فقد صوّت المجتمع بذاته بانفصال عن كل القوى الطائفية والمحاصصاتية، قوى الحرب الطائفية، وقال كلمته بجلاء. والأمر الأهم ليس ما حدث في الانتخابات ودلالته، فالمجتمع من يومها يعاقب على ما اقترفه، والقوى التي تعاقبه بالقتل اليومي، لا تعرف أن الأمر انتهى، وأن مرحلة أخرى من تاريخ تشكل العراق بدأت. هذه المرحلة الثالثة لن تتكامل بين ليلة وضحاها، وأمامها الكثير قبل أن تغدو حاضرة ومقررة، لكننا دخلنا رحابها.
* كاتب عراقي