يدخلون معهد الدروس القضائية، شبّاناً متحمسين لتحسين ظروفهم العادية، فيواجهون بعد تخرجهم مشاكل تقليدية، ما يقلّص رغبة بعضهم في خوض غمار المهنة الصعبة، ويرفع من حماسة آخرين لتحدّي المشاكل
أحمد محسن
يمكن اعتبار معهد الدروس القضائية في لبنان، من الصروح الأولى في هذا المجال التي ارتفعت في الدول العربية. بُني بموجب مشروع قانون منفذ بالمرسوم الرقم 7855 تاريخ 16/10/1961، وقد مثّل هدفاً صريحاً لمجموعة كبيرة من القانونيين في تلك الفترة. يدخلونه في شبابهم، ويخرجون منه قضاةً نحو المستقبل.
منذ عام 1964، حتى اليوم، خرج طلابه في 26 دورة في القضاء العدلي، وأربع دورات في القضاء الإداري الذي يضم قضاة مجلس شورى الدولة، وأربع دورات في القضاء المالي، الذي يتمثل في ديوان المحاسبة. إذاً، يتدفق الدم الجديد إلى الجسد القضائي، من هذا المعهد. لكن في السياق نفسه، لا بد من الإشارة إلى أن القضاة الشباب، يُدخلون معهم إلى قصور العدل، إضافةً إلى دمهم الشاب، أحلاماً جديدة بإصلاح ما أفسده تشابك السياسة بالقضاء. يبدو التغيير في وجوههم الفتية أيضاً، ويساعدهم على بناء أحلامهم التطور التكنولوجي الذي واكب العصر من جهة، والضوء الإعلامي الكثيف الذي سُلّط على القضاء المحلي، بعد تتابع الأحداث أخيراً. وفي مشهد لافت، لا بدّ من الإشارة إلى أن المد الأنثوي في القضاء، يتزايد تدريجياً، مع الدفعات الشابة الجديدة.
إذا عدنا بالذاكرة، إلى مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، أي في بدايات السبعينيات، فإنّ عدد القاضيات كان محدوداً، لكن الأمر اختلف في مطلع التسعينيات، إذ لم تمرّ دورة في معهد الدروس القضائية، إلا وتخرّجت فيها قاضيات (راجع عدد «الأخبار» ١٥ كاون الأول ٢٠٠٨). أكثر من ذلك، فإن وزارة العدل، توقعت عام 2006، أن تصبح نسبة القاضيات نحو 60 في المئة من إجمالي عديد القضاء العدلي إذا ما استمر تفوق الإناث في مباريات دخول القضاء، ولا سيما أن معظم القاضيات الإناث ما زلن في الدرجات المتوسطة والدنيا، أي في سن الشباب، ما يعني أن التدفق الشبابي الجديد في الجسد القضائي، يأخذ شكلاً أنثوياً. في موازاة ذلك، يُفترض أن يكون معظم المُحالين على التقاعد من القضاة الرجال.
لاحظت وزارة العدل أن العدد الأكبر من القضاة الشباب أخيراً هم من الإناث
تدل الإحصاءات الرسمية، على أنه من الآن حتى عام 2011 سيحال على التقاعد 38 قاضياً جميعهم من الذكور. إذا ما قورن ازدياد تقاعد الرجال في مقابل تزايد عدد دخول السيدات إلى القضاء، فإن هذا يعني أنّ أكثرية قضاة لبنان ستكون من النساء، واللافت أنه منذ نحو خمس سنوات، بات للقاضية تأثيرها في التشكيلات القضائية، ولا سيما بعدما باتت قادرة على ملء أي منصب أو مهمة توكل إليها، حتى في المناطق ذات الطبيعة الصعبة. تطغى هذه الإحصاءات الرسمية على الشكل القضائي المندفع حديثاً إلى المهنة، ولا يمكن اعتباره أمراً عادياً.
لماذا يحلم بعض متخرّجي الحقوق بالعمل قضاة؟
أكد إبراهيم، طالب كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، أنه بعيد كل البعد عن الأسباب التقليدية. يسمع أن وضع القضاة المادي الممتاز، و«يعلم أن القانون يسمح لهم ببعض الامتيازات». وعن رأيه في القضاء حالياً، يطلق الشاب العشريني موقفاً من التدخّلات في القضاء، السياسية منها... والقضائية أيضاً. كطالبٍ جامعي، يرى إبراهيم أن القضاء محصور ببعض الأسماء، مستغرباً عدم وجود أسماء شابة لامعة بين القضاة المعروفين، لكنه لا يلبث أن يستدرك، فيعترف بأن القضاء مهنة خاضعة للاجتهاد الدائم، وأن الأمر يحتاج إلى وقتٍ طويل حتى يصبح القاضي ذا شأن مهمّ. رنا (اسم مستعار) لا توافق إبراهيم الرأي. الصبيّة لم توفّق في امتحانات معهد القضاء. لكنها تبدو إيجابيةً جداً في هذا الإطار. تقول إنها وحدها تتحمل مسؤولية ذلك، مستبعدةً «الحديث عن وساطات ومحسوبيات». تعترف بأنها لم تجتهد في دراستها كما يجب. رنا وجدت عملاً في شركة إعلانات، وتخلت عن رغبة الدخول إلى «سلك القضاء»، وفي هذا الإطار تعلن الشابة أن القضاء اللبناني في حاجةٍ إلى الكثير من الإصلاحات، وهي «غير قادرة على الانسجام مع التركيبة القائمة»، وتقول: «أنا بالمعهد ما درست منيح، كيف بدي شارك بإصلاح القضاء؟» تبدو رنا واقعية جداً، إذا علمنا أن معهد الدروس القضائية موكلٌ إليه اختيار القضاة وتدريسهم وتأهيلهم وتدريبهم لدى المحاكم، إضافةً إلى تأهيل المساعدين القضائيين والخبراء وكتّاب العدل ومراقبي الصلح الاحتياطي الذين يكوّنون النواة الأساسية للعمل القضائي. بيد أن الحال اليوم، لا تسمح للمعهد بممارسة هذه المهمات كاملةً، إذا استثنينا تدريس القضاة المتدرجين. السبب بسيط، فجناح المعهد لا يتعدى الغرف الثلاث، ولا تتوافر فيه الهيكلية التنظيمية والجهاز الإداري والبشري، كما يفتقد المعهد التجهيزات المطلوبة، وهو الأمر الذي يحاول بعض القضاة الشباب توفيره بأنفسهم. صدرت أخيراً التشكيلات القضائية، لتنتهي معاناة 110 متخرّجين كان وزير العدل الأسبق بهيج طبارة، قد تحدث عنهم للـ«الأخبار» قبل شهور قليلة، وقال إن قضية المتخرّجين (وهم من الشباب) من معهد الدروس القضائية، وضعت أمر التشكيلات القضائية قيد التداول بقوة، لافتاً إلى أن عدد هؤلاء وصل إلى 110 قضاة يتقاضون رواتبهم من دون أن يعيّن أي منهم قاضياً أصيلاً، معترضاً على وضعهم في التدرج الذي يخضعون له في المعهد «إذ يجري التعامل معهم كما لو أنهم قُصَّر». سأل طبارة حينها عن سبب عدم النظر إلى وضع هذه الفئة من القضاة. رغم خبرته الطويلة في العدلية، ووزارتها، أحس طبارة بمعاناة هؤلاء الشبان وآمالهم، علماً أنهم وفقاً لتقديراته، يمثلون نحو خُمس الجسم القضائي. تجدر الإشارة إلى أن القضاة اللبنانيين، يحصلون في معهد الدروس القضائية في لبنان، على معرفة قانونية رفيعة، بفضل مستوى التعليم الذي يقدّمه أساتذته والقيمون عليه، بدءاً من مباراة الدخول المشدّدة، مروراً بمراحل التدريس الثلاث وصولاً إلى التدرج ومن ثمّ التخرج، واعتماده سياسة تدريس معمّقة في القانون واللغات والإدارة وغيرها.
في هذا السياق، أكد مسؤول إداري رفيع في وزارة العدل، أن الوزارة حصلت على مبنى في منطقة الأشرفية، حيث كان من المُفترض أن يصبح المعهد الجديد للدروس القضائية، خلال الشهرين المنصرمين، بحيث يشيّد وفقاً للمعايير القانونية المناسبة، ويجمع في رحابه التجهيزات الفنية الضرورية، إلا أن التأخير حصل بسبب مشاكل إدارية داخل الجهات المانحة، علماً أن هذه الجهة هي «USAID». وأشار المسؤول إلى أن المؤسسة المذكورة، أجرت بعض التعديلات على مستوى المسؤولين الماليين، ما أخّر إتمام عملية بناء المبنى، إلا أنه توقع انتهاء الأمر بعد تعيين مدير جديد في «USAID»، على أن تتعدى الفترة الزمنية انتهاء العام الحالي، مؤكداً أن معهد الدروس القضائية هو بوابة القضاة الشباب إلى قصور العدل، ويجب أن يكون في أفضل حالاته.


«ضرورة تحسين الوضع المالي»

رأى مسؤول إداري رفيع في وزارة العدل، أن «الوضع المادي» بات يمثّل عائقاً حقيقياً، أمام طموحات القضاة. وفي مقاربة لطيفة، أشار القاضي المخضرم إلى أن راتبه حين دخل إلى السلك القضائي عام 1973، كان 400 ليرة لبنانية. قد يبدو المبلغ مضحكاً «لكن الليرة كانت ليرة وقتها»، يردف المسؤول، مضيفاً أن الحال في تلك الفترة كانت أفضل بكثير مما هي عليه الآن. وأمام هذه المعطيات، وجد مسؤول مبررات محقة، لعدد كبير من طلاب الحقوق في الجامعات اللبنانية، بأن يتجهوا نحو العمل الخاص، ويتخذوا مهناً أخرى (محامون، كتاب عدل، الخ..). وبرأي المسؤول، فإن هذه الأوضاع المادية غير الكافية، دفعت عدداً من القضاة للاستقالة منذ فترة. تعدلت رواتب القضاة، والعاملين في السلك العدلي أكثر من مرة خلال العقدين السابقين، إلا أنها ما زالت تمثّل عائقاً أمام المغريات الأخرى التي يجدها القضاة الشباب أمامهم، كالسفر إلى دول الخليج والعمل هناك، أو العمل في الشركات المحلية الخاصة. «لا بد من إعادة نظر بهذا الأمر»، ختم القاضي كلامه.