في القرى الجبلية العالية تشتد الحرارة في الصيف أكثر من السواحل. هنا، تعلو القرى النائية الفقيرة عن سطح البحر كثيراً، فأين يسبح أولادها؟ مسابح الفنادق للميسورين، أما القرويون، فلهم المجازفة في مياه الأنهر المفخّخة
البقاع ــ نقولا أبورجيلي
يعدّ مبلغ خمسة آلاف ليرة اللبنانية أو عشرة آلاف رسماً مقبولاً بالنسبة إلى الكثيرين من هواة السباحة للدخول إلى المسابح الشعبية المنتشرة في العديد من المناطق البقاعية، إلا أن هذه المبالغ تعدّ باهظة ومستحيله أحياناً بالنسبة إلى أبناء الطبقات الفقيرة، فيما تبقى مجاري مياه الأنهر وبرك الينابيع في البقاع المتنفّس الوحيد لهم، لتبريد أجسادهم هرباً من حرّ الصيف وشمس البقاع الحارقة. ويمكن الجزم أن معظم هذه الأمكنة لا تخلو يومياً من أعداد كبيرة من الصبية، يأتون إليها لقضاء نهارهم الصيفي وسط مياه ملوّثة تجمّعت فيها رواسب النفايات بجميع مكوّناتها، التي تتراكم بطريقة ظاهرة على ضفاف الأنهر ومجاريها، والأهم من كل ذلك هو عشرات الفتية الذين يقضون غرقاً سنوياً لأسباب عديدة أبرزها، جهل هؤلاء ممارسة السباحة في مياه تكسوها النباتات النهرية مثل «الخزّ» والقصب وأنواع أخرى تعوق حركة السباحة، وتسبّب غرق الكثيرين من الذين يقعون في شباك جذوعها. وكل ذلك بالطبع يحصل بعيداً عن عيون الرقابة، سواء من الأهل أو من الجهات الرسمية، إضافةً إلى ارتطام المبتدئين بالصخور المنتشرة في قعر المياه أثناء القفز إلى المياه من أماكن مرتفعة. وكانت التقارير الأمنية قد سجلت في أوقات سابقة،
يرتطم المبتدئون بالصخور أثناء القفز الى المياه من أماكن مرتفعة
حالات وفاة لفتية وشبان قضوا غرقاً جراء نزولهم المياه الباردة بعد تناولهم طعام الغداء مباشرةً، وهذا ما أظهرته معظم التقارير الطبية الشرعية من خلال الكشف على معظم جثث المتوفَّين غرقاً في الأنهر. وفي هذا السياق أوضح الطبيب الشرعي رامز أبو زيد، أن دخول مياه الأنهر الباردة في أوقات الحرّ الشديد، في وقت تكون فيه حرارة الجسم مرتفعة، قد يؤدي إلى ردّ فعل عكسيّ تنتج منه تشنّجات في الأعصاب، وتقلّص في عضلة القلب، وعدم انتظام في الدورة الدموية، يضاف إليها تلبّك معوي يسبّب ضغطاً على الرئتين وإعاقة لعملية التنفس، محذراً الأهالي من مخاطر هذه العوامل، ومن ترك أولادهم لأهوائهم أثناء القيام برحلات التنزّه في الأماكن القريبة من الينابيع ومياه الأنهر.
«إلى متى سيبقى أولادنا عرضةً للموت في البرك والمستنقعات؟» يسأل عمر يوسف (مختار بلدة الصويري سابقاً)، الذي يسكن وعائلته في سهل بلدة كفرزبد ـــــ قضاء زحله، فوق تلة مقابلة لنبع مياه شمسين «الغزيّل» أحد روافد نهر الليطاني، «عشرات الشبان قضوا غرقاً في هذه البركة منذ سكنت هنا منتصف سبعينيات القرن الماضي»، يضيف يوسف، لافتاً إلى أن سكان المحلة كانوا قد أنقذوا في أوقات سابقة، العديد من الصبية على الرمق الأخير، آخرها ما حصل صيف العام الماضي، حين تمكّن أولاده من انتشال شابين سبّبت الوحول ونباتات «الخز» إعاقة حركتهما داخل مياه البركة، فقضى الأول نحبه، وساعدت الأقدار على إنقاذ الآخر. يوسف طرح بعض الحلول التي تمكّن أولاد الفقراء من ممارسة هواية السباحة في قراهم ومناطقهم، من بينها مبادرة البلديات إلى تنظيف المساحات التي تستكين فيها المياه من النفايات المتراكمة على ضفافها، وإزالة المعوقات من صخور ووحول ونباتات نهرية، وتحديد مساحات تخصص للسباحة قرب المتنزّهات، والتعاقد مع شبان يجيدون السباحة، في حال عدم توافر منقذين يتقنون هذه المهنة، وذلك لفترة شهرين فقط خلال موسم الحرّ الشديد، على أن تدفع رواتبهم من خلال جباية مبالغ رمزية كرسم دخول لا يتعدى ألف ليرة لبنانية. ورأى يوسف أن كل هذه المشاريع لا تتطلّب تكاليف كبيرة، حيث يمكن إقامتها بالتعاون ما بين البلديات والأهالي وبموافقة من الجهات الرسمية ورعايتها.
تجدر الإشارة إلى أن منطقة البقاع تضم العديد من الينابيع والبرك، إضافةً إلى الأماكن التي تتجمع فيها المياه على طول مجاري مياه الأنهر الكبيرة والصغيرة، ومن أبرز هذه الينابيع، بركتا القرعون وعميق ـــــ البقاع الغربي، تعنايل وعنجر وشمسين ـــــ البقاع الأوسط، منبع ومجرى نهر العاصي واليمونة ورأس العين في قضاء بعلبك ـــــ الهرمل، وعلى الرغم من قيام بعض الأهالي باستثمار عدد من هذه الينابيع، من خلال تحسين ظروفها وإقامة متطلبات التنزه والسباحة، لا تزال هناك برك وينابيع كثيرة مهملة، يقصدها أولاد الفقراء لقضاء أوقاتهم خلال فصل الصيف.