كامل جابر
في بلّونة، تلك البلدة الكسروانيّة التي أرشدته إليها الشحرورة صباح، يستقبلك جوزف عازار في بيته المدثر بطابع جزيني، أخذه عن والده، سليم عازار «فرّان» الضيعة. يسحرك «راجح» بذاكرته منذ البداية: يحفظ الأرقام والأسماء والتواريخ وحتّى المسارح التي وقف عليها بصوته الجبلي ـــــ منذ مسرحية «البعلبكية» على أدراج بعلبك عام 1961، وصولاً إلى «أوبرا الضيعة» في المدينة نفسها خلال صيف 2009.
برزت قدرات عازار الصوتيّة منذ كان تلميذاً في مدرسة «راهبات القلبين الأقدسين»: «صاروا يطلبون مني الترتيل في الكنيسة». تلك النعمة ورثها من والده الذي كان يطرب أماسيّ جزين (جنوب لبنان) بألحان سيد درويش وسلامة حجازي وعبده الحمولي ومحمد عبد الوهاب. رحل والده باكراً، والتحق جوزف بمعهد «دير مشموشي» للرهبانية المارونية، وصار المرتّل المنفرد الأول في جوقته...
في عام 1958، نال البكالوريا، ونزل إلى العاصمة ليدرس الفلسفة ويبحث عن وظيفة تسدد مصاريف الدراسة. هكذا، علّم في «مدرسة الفنار» اللغة العربية والفرنسية والتاريخ والجغرافيا لمدة خمس سنوات. «ثم أسستُ جوقة وصرنا نخدم الكاهن». في تلك المرحلة، تعرّف إلى عازف العود الشهير فريد غصن العائد من مصر ليفتتح «الكونسرفاتوار الوطني» (رياض الصلح). «هنا تعلّمت السولفيج وعلم الصوت، وبدأ غصن يلقنني مبادئ العزف على العود».
وذات يوم من عام 1961، قدّمته ابنة عمه، نهاد عازار معوّض، أحد أعضاء «لجنة مهرجانات بعلبك» إلى آل الرحباني. سأله عاصي الرحباني ما الأغنيات التي يعرف، فاقترح أن يغنّي لعبد الوهاب، لكنّ عاصي طلب «شيئاً لبنانياً». «غنيت من جديد وديع الصافي حينها «يا اختي نجوم الليل». بعد المطلع الأول والثاني، نادى عاصي على صبري الشريف، وقال له خذ رقم هاتفه». حين بدأ الإعداد لأوبريت تقدمها فرقة شبل بعقليني وزوجته سميرة سنو في مهرجانات بعلبك، التحق جوزف بهم، لكونه من «دبّيكة» جزين. «رآني عاصي الرحباني، واستغرب، ثمّ قال لشبل: هذا الرجل ليس لك، بل لنا». وهكذا كان، والتحق جوزف بالرحابنة في مسرحية «البعلبكية»، لكنّه لم يأخذ دوراً رئيساً. بعد تقديم العمل في الشام، أراد الرحابنة وفرقتهم السفر لإحياء 15 حفلة في أميركا اللاتينية. «كنت ما أزال في التعليم... لكنني أخذت إذناً بالسفر. وأثناء تلك السفرة، أدّيت مقاطع منفردة ودويتو أنا والست فيروز». من وقتها، هجر الكورس، وحجز مكاناً له في الأدوار الرئيسية.
سنة 1962 أنشد قصيدة «إلى يافا» في مشهد (اسكتش) «العودة»، وجسّد دور صالح ابن مختار القاطع في مسرحية «جسر القمر». وفي العام التالي، أدّى دور «هولو» إله العتمة، في «الليل والقنديل» مع الرحابنة. في تلك الفترة، تعرّف إلى روميو لحود ووليد غلمية وأسندا إليه دور البطولة، إلى جانب صباح، في مسرحية «الشلال»، ثمّ في «أرضنا إلى الأبد» عام 1964. لكنّ حدثاً آخر ذلك العام فتح له أبواب الشهرة الواسعة، حين أُسنِدَ إليه دور «راجح» في مسرحية «بيّاع الخواتم». عرضها الأخوان الرحباني للمرّة الأولى في معرض دمشق الدولي، وتحوّلت فيلماً سينمائياً سنة 1965 من إخراج يوسف شاهين.
يقول: «حظّي كبير أنني شاركت في «بيّاع الخواتم». عندما أرادوا تصوير «سفر برلك» طلبوا مشاركتي، كنت قد ارتبطت بعقد مع روميو لحود في مسرح «فينيسيا»... زرتهم وكان عندهم المخرج هنري بركات والمستشار كامل التلمساني وسعيد عقل وعاصي ومنصور والجميع. أبلغني عاصي أنهم اختاروا لي دوراً أساسياً في الفيلم. بقيت عقبة الاتفاق مع روميو لحود. قلت: لا يمكنني أن أخلص منه ولا أن أخلص منك. ربما يا أستاذ عاصي ليس لي حظ معكم هذه المرة، وأنا مستاء جداً. فقال عاصي: نحن أكثر... وهكذا ضاعت الفرصة». بعدها، أدّى دور البطولة في العديد من المسرحيات إلى جانب صباح من إخراج روميو لحود؛ في «الليالي اللبنانية» (بعلبك 1967) و«القلعة» (بعلبك 1968)، و«الفرمان» (بعلبك 1970) و«فينيقيا 80» (بيروت 1971)...
سنة 1980 عمل الرحابنة على مسرحية «المؤامرة مستمرة»، وأرسلوا بطلبه من بلونة، بعدما كان قد ترك عين الرمانة بسبب الأحداث. «قال لي عاصي نحن نعدّ استعراضاً نريد أن نقدّمه في الأردن، حفلة للشعب وحفلة للجيش وحفلة لجلالة الملك حسين». يخبرنا: «غنيت أنا قصيدة «الأردن»، وحضر الحفلة خوان كارلوس ملك إسبانيا، وكانت زوجتي على وشك الولادة، فسمّينا الصبي كارلوس».
بين 1983 و1998 شارك في ثلاث مسرحيات مع صباح («برج الذهب» و«الأسطورة» و«كنز الأسطورة») ثم بدأ رحلته مع عبد الحميد كركلا وفرقته بعرض «بليلة قمر» (1999) و«ألفا ليلة وليلة» (2002)، وأخيراً «أوبرا الضيعة» في مهرجانات بعلبك.
تعني له بعلبك الكثير. «عندما أعود إلى بعلبك، أبكي قبل أن أصعد إلى المسرح... أتخيّل نفسي باستمرار ذلك الشاب الذي أطلّ للمرة الأولى على عالمه من أدراج بعلبك».
لا ينسى جوزف عازار كل من واكبوه خلال مسيرة امتدت 48 عاماً. يقول: «حرمت نفسي من أشياء كثيرة حتى أحافظ على صوتي. التزمت بالضوابط التي تحدد ما يضرّ الصوت أو ينفعه... أمّا النوم العميق فهو رأسمالي. سمعت كبير الفنانين محمد عبد الوهاب يقول: النفس الطويل يأتي من النوم العميق، وراحة البال». لماذا لا يغنّي «بيّاع الخواتم» اليوم؟ «مشكلتي أنا أو إيلي شويري أو سمير يزيك وأمثالنا من أصحاب الرصيد الإبداعي في لبنان، أننا لا نجد إنتاجاً، وإن وجدنا يكون من منطلق تجاري بحت».


5 تواريخ

1942
ولد في جزين (جنوب لبنان)

1961
التقى الأخوين رحباني في «البعلبكيّة» فكانت بداية مشواره الفنّي

1964
أدّى دور راجح في «بيّاع الخواتم» الفيلم والمسرحيّة.

1999
استعراض «بليلة قمر» في «مهرجانات بعلبك» عمله الأول مع فرقة كركلا.

2009
شارك هذا الصيف مع كركلا في «أوبرا الضيعة»، ضمن برنامج «مهرجانات بعلبك الدوليّة»