سعد الله مزرعاني *في ظواهر الأمور ما يوحي بأن «عجقة» الاتصالات العربية الدائرة الآن بشأن لبنان، إنما هي مجرد تمرين متعدد الأطراف موحّد الهدف: ضبط الإيقاع اللبناني في نطاق التفاهم السوري ــــ السعودي (المرشح ليصبح ثلاثياً بانضمام مصر إليه، ورباعياً إذا احتسبنا لبنان أيضاً). ويضيف البعض إلى ذلك أيضاً، أن ثمة تمريناً ثانياً قيد التنفيذ الآن، وهو يتصل بتمكين الرئيس المكلف سعد الحريري من ارتياد نادي رؤساء الوزارات خلفاً للرئيس فؤاد السنيورة، وأساساً، خليفة لوالده الشهيد رفيق الحريري.
وتوحي ظواهر الأمور أيضاً وأيضاً، بأن لبنان يشهد تمريناً ثالثاً، هو ذلك المتصل بالعلاقات السورية ــــ الأميركية، حيث تتطور هذه العلاقات باطراد (ولو أنها لم تتجاوز حتى الآن إعلان الأميركيين النوايا الطيبة بعد سقوط حكم «المحافظين الجدد» وسلطتها في واشنطن في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأميركية).
ثمة تمرينات أخرى، أقل أهمية في التأثير على المشهد اللبناني. لكنها تستحق أن يشار إليها في محاولة بلورة ورسم ملامح تركيبة الحكومة اللبنانية العتيدة. ومن أبرز هذه التمرينات، استئناف الحوار والعلاقات بين الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الله، وبين هذا الأخير وحزب المستقبل.
قلنا هذا ما يرتسم في ظواهر الأمور، فماذا عن بواطنها؟
يتحدث متابعون للاتصالات العربية والمحلية بشأن لبنان (السعودية ــــ السورية واللقاءات التي جمعت السيد حسن نصر الله بكل من رئيسي الحزب التقدمي الاشتراكي والمستقبل) أن المسائل «حارت ودارت» لتتركز في محصلتها على مطلب واحد ووحيد: تخلي قوى الثامن من آذار و«التيار الوطني الحر» عن مطلب الحصول على «الثلث المعطل» في الحكومة الجديدة. ويذكر هؤلاء أن ممثلي المملكة العربية السعودية (وهما ممثلان رفيعا المستوى) كانا قد طرحا أربعة عناوين هي: ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان في منطقة مزارع شبعا. إعادة النظر بالمعاهدة الموقعة بين سوريا ولبنان (بما في ذلك المجلس الأعلى اللبناني ــــ السوري). المساعدة السورية لنزع سلاح المقاومة الفلسطينية خارج المخيمات وضبطه في داخلها. الضغط على المعارضة الحليفة لسوريا من أجل أن تتخلى هذه المعارضة عن المطالبة بالثلث الضامن أو المعطل شرطاً للمشاركة في الحكومة.
ويلاحظ المتابعون أنفسهم، أن مطلب تخلي فريق الثامن من آذار عن «الثلث الضامن أو المعطل» قد تردد أيضاً بإلحاح في لقاءي نصر الله وكل من الحريري وجنبلاط. كما يلاحظون أيضاً، أن ممثلي المملكة العربية السعودية الأمير عبد العزيز بن عبد الله والوزير عبد العزيز الخوجة، قد أسقطا، في اللقاء الأخير في دمشق، كل المطالب ــــ الشروط المذكورة آنفاً، لمصلحة الإبقاء على شرط ــــ مطلب وحيد، هو أن تضغط سوريا على حلفائها في لبنان من أجل التخلي عن «الثلث الضامن»!
ويتصل بذلك، في المحادثات واللقاءات المذكورة على الأقل، أمر لم يرد بتاتاً في وسائل الإعلام. وهذا الأمر هو ما كانت قد تناولته مجلة «دير شبيغل» الألمانية في الشهر الماضي. ففي المحادثات العربية أو المحلية، عرضت مسألة «تحول» الملف الاتهامي بشأن المسؤولية عن اغتيال الحريري من دمشق باتجاه حزب الله. وقد عرضت مسائل وأسماء ومجريات من النوع الذي يؤكد أن التحقيق الدولي ليس سرياً إلا على «العامة». أما خاصة الناس، فهم يعرفون الكثير. وهم استناداً إلى هذه المعرفة، يطلبون التعاون ويأملون ترجمة ذلك من خلال تسليم أشخاص ولو كان بعض هؤلاء يشغلون مواقع مهمة أو يمارسون مسؤوليات حسّاسة في هذا القطاع أو ذاك، وفي هذا الحزب أو في حزب آخر!
لا يفوت المراقبين والمتابعين أيضاً، ملاحظة أن هذه الأمور تطرح رغم ذلك، في مناخ وفاقي وإيجابي! ويزيد ذلك من علامات الاستفهام حول تباين الأسلوب المرن والانفتاحي من جهة، والإصرار على التفرد بالسلطة وتحريك ملف الحريري في وجهة اتهامية حيال حزب الله وطهران، من جهة أخرى. وفي هذا السياق، لم يكن بلا معنى الموقف الذي أعلنه رئيس وزراء العدو الإسرائيلي محذراً من أن تضم الحكومة المقبلة في عضويتها وزراء يمثلون حزب الله. وكذلك ليس بلا معنى أيضاً، أن تبادر إسرائيل لأول مرة، إلى تنفيذ استفزاز وقح ضد عمال لبنانيين يواصلون تنفيذ بعض الأشغال داخل الأراضي اللبنانية في بلدة كفركلا الحدودية في نطاق مشاريع تابعة للهيئة الإيرانية. ويمكن أن نضيف أيضاً، إلى كل ذلك، التصعيد الذي اتسمت به مواقف القوات اللبنانية وقائدها سمير جعجع، واللهجة الارتدادية إلى أواخر السبعينيات التي استخدمها النائب المنتخب عن حزب الكتائب سامي الجميل. يقول المثل «خذوا أسرارهم من صغارهم». وها هو السيد سامي الجميل يجاهر بضرورة بناء علاقة مع إسرائيل كضمانة لسيادة لبنان في وجه المقاومة وسلاحها وسوريا ونواياها!
وخاتمة كل ذلك في «المسـك» الأميركي. فلبنان ما زال قبلة أنظار كبار القادة السياسيين والعسكريين الأميركيين. الذريعة، المساعدات للجيش. وهذه المساعدات موجهة بالتأكيد ضد «الإرهابيين» في الداخل ممن وصفهم نائب الرئيس الأميركي في زيارته إلى لبنان قبيل الانتخابات اللبنانية بأنهم «مفسدو السلام»، ودعا حلفاءه اللبنانيين الذين التقاهم في منزل السيدة نايلة معوّض، إلى مواجهتهم وإلى «استمالة المترددين»، ضماناً للنجاح في الانتخابات النيابية!
أما على المستوى الداخلي، فالأرضية (المسرح) جاهزة للتحرك في ضوء تداعيات كل ما تقدم. وهي أرضية بلغ فيها الاستنفار المذهبي ذروة غير مسبوقة في الانتخابات الأخيرة. وتمرين إطلاق النار بعد انتخاب كل من رئيس المجلس وتكليف سعد الحريري بتأليف الحكومة الجديدة، قد أثبتت مستوى عالياً من الاستعداد لدى طرفي النزاع لنقل المشكل إلى الشارع: بين المواطنين وعلى حساب أمنهم وسلامتهم وأرزاقهم... ولكن من أجل ما هو أخطر: مشروع فتنة شاملة في لبنان!
والمستوى الداخلي هذا، يعكس في الواقع نقطة الخلل الأساسية في الوضع اللبناني. إنها «كعب أخيل» المكشوف والسهل، الذي من خلاله، يجري استهداف ما بقي من مظاهر العافية والحياة، القليلة، في الجسد اللبناني.
لم تعد لعبة التعبئة المذهبية والطائفية لعبة قليلة الكلفة على الوطن المهدد، ليس فقط باستقراره، بل باستمراره أيضاً. إنها بالتأكيد، سخية المردود على الأطراف المستخدمين لها والذين نجحوا في استقطاب حوالى ثلاثة أرباع اللبنانيين، في لعبتهم الخطيرة والمدمرة تلك (وخصوصاً في الانتخابات النيابية الأخيرة). لكن هذه اللعبة باهظة الثمن على اللبنانيين وعلى إنجازاتهم في حقول التحرير والمقاومة والديموقراطية والانفتاح...
يحاول بعض أطراف «8 آذار» الآن، سد بعض الثغرات في بنية تحالف هذه الأطراف (وهي بنية هشة وغير قادرة على تقديم خيار مقنع). لكن ذلك ليس الحل. والحل ليس أيضاً في «الثلث الضامن» أو المعطل. الحل هو فقط، وهو حصرياً، في بناء مشروع وطني متكامل، تكون المقاومة وقوتها ووظيفتها جزءاً منه: مشروع للدفاع عن لبنان في وجه العدوان الإسرائيلي من جهة، ولإصلاح الخلل في نظام علاقات اللبنانيين، عنينا الخلل الطائفي والمذهبي الذي سيكون وقود الفتنة وشرارتها في آن. وهو أيضاً مشروع لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمديونية الهائلة، ولإقامة وطن حصين وموحد وعربي وديموقراطي وسيد ومستقل، وبما يليق بتضحيات شعبنا وإنجازاته غير المسبوقة.
لا شك بأن ثمة مشروع فتنة يجري تحضيره للبنان. ولا بد من العمل بكل القوة، لمنع هذا المشروع من المرور. كيف ذلك؟ ومتى يبدأ العمل؟
* كاتب وسياسي لبناني