مصطفى بسيوني
أحياناً يفرض الصمت نفسه على الجميع، وينقطع الأمل بصرخة تشقُّ السكون. حينها يطلق شخصٌ غير متوقع صرخته، مجهزاً على صمت ظنَّه بعضهم أبدياً. يحيى حسين عبد الهادي كان ذات مرَّة هذا الشخص. عندما تقدَّم ببلاغه للنائب العام المصري ضد صفقة بيع «شركة عمر أفندي» (تأسست عام 1856 قبل أن يجري تأميمها عام 1957 في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر)، كان يطلق صرخة فريدة من نوعها، وخصوصاً أنّه لم يكن واحداً من معارضي الخصخصة، ولا حتَّى أحد المتضررين مباشرة منها، لا بل أحد القيمين عليها.
أوَّل ما تقع عليه العين في مكتبه في «مركز إعداد القادة» التابع لوزارة الاستثمار، لوحة صغيرة منقوش عليها عبارة عمر ابن الخطاب الشهيرة «ماذا تقول لربِّك غداً؟». ويشير بنفسه لهذه اللوحة بوجهه البشوش قائلاً: «أنا لا أنتمي إلى أيّ تيّار سياسي، وما يحركني فقط هو الضمير والأخلاق».
ميلاده ونشأته في صعيد مصر وانخراطه في القوات المسلحة مبكراً والتزامه الديني، كلُّها عوامل أسهمت في صبغ شخصيته بالصلابة والاستقامة والجرأة. نشأ عبد الهادي في محافظة أسيوط، هو المولود في القاهرة عام 1954، والتحق بالكليّة الفنية العسكرية عام 1972 وتخرَّج منها عام 1977، وظلَّ يخدم في القوات المسلحة حتى عام 1992. عن تلك المرحلة، يقول: «كنت من المتفوقين في الثانوية العامّة، وكانت أمامي خيارات كثيرة في الجامعة. لكنّ أجواء الحرب التي سبقت 1973، والإحساس بالواجب، من العوامل التي دفعتني للالتحاق بالقوات المسلحة حيث تعلمت الالتزام. تذكرت لاحقاً، أثناء أزمة «عمر أفندي»، أنّني كنت مستعداً كجندي للتضحية بنفسي من أجل الواجب... فكيف أحيد الآن والتضحية لا تصل إلى ذلك الحد؟».
بعد خروجه من القوّات المسلَّحة، شارك في تأسيس مركز إعداد القادة (يقدِّم الاستشارات لمؤسسات الأعمال المصرية والعربية، ويدرّب رجال الأعمال) الذي كان في البداية تابعاً لرئاسة الوزراء, ثم انتقلت تبعيّته لوزارة الاستثمار، وأصبح مديراً للمركز ووكيلاً لوزارة الاستثمار عام 2004. مركزه هذا، ومناصبه المتعددة، أهّلته لعضوية اللجنة الرئيسية لتقويم «شركة عمر أفندي» التي ضمَّت 15 عضواً من قيادات قطاع الأعمال والخبراء. لقد مثّلت تلك اللجنة مفترق طرق بالنسبة إليه. من حيث المبدأ، لم يكن الرجل من المعارضين للخصخصة كما يقول. «لم يكن لدي موقف معارض للخصخصة من حيث المبدأ، وخصوصاً بالنسبة إلى شركات التجارة الداخلية مثل «عمر أفندي». كنت أقول بانتقالها للقطاع الخاص، واحتفاظ الدولة بما يكفي فقط لضبط الأسعار ومنع الاحتكارات... لكنّي فوجئت بأن ما يحدث ليس مجرد خصخصة».
توصلت تلك اللجنة التي شارك في عضويّتها، إلى تقدير ثمن الشركة بما يقارب 1300 مليون جنيه مصري (232 مليون دولار تقريباً) بعد خفض القيمة بنسبة تراوح بين 20 و30 في المئة لتسهيل الصفقة. فوجئ عبد الهادي بتجاهل هذا التخمين واعتماد تقويم آخر بـ450 مليون جنيه ارتفع إلى 550 مليوناً، إضافةً إلى توقيع اللجنة على ما يشبه اعتذار عن تقريرها الأصلي، واعتماد القيمة المنخفضة. «كان الأمر ككل أشبه بمهزلة. من كان يجب أن أبلِّغ بهدر أكثر من 700 مليون جنيه من أموال المصريين، إذا كان كبار المسؤولين أنفسهم هم من يهدرون المال العام؟ عندما توجهت إلى النائب العام، لم أكن أريد إبلاغه هو كجهة قضائية، بل إبلاغ المصريين أنفسهم. رأيت أنّ من حقّهم أن يعرفوا ماذا يحلّ بأموالهم». بيعت الشركة لاحقاً إلى شركة «أنوال» السعوديّة وما زال ملفها بتجاوزاته الكثيرة يثير جدلاً حتّى الساعة.
لم يدخل يحيى حسين عبد الهادي معترك النضال السياسي عبر القوى السياسية والأحزاب، بل عبر موقفه المباشر من قضيّة «عمر أفندي» عام 2006. هكذا، انضمَّ إلى الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية»، ثمّ أسَّس مع عدد من الرموز السياسية والخبراء الوطنيين والنشطاء حركة «لا لبيع مصر» التي خاضت حملات عدّة ضدَّ الخصخصة، أهمها الحملة ضد بيع «بنك القاهرة».
موقفه من صفقة «عمر أفندي» لم يكن مجانياً، إذ دفع ثمنه باهظاً. «عدت من منصبي كوكيل أول للوزارة إلى «مركز إعداد القادة»، لكن ليس مديراً كما كنت بل محاضراً من دون محاضرات. عزلتني اللجان ومجالس الإدارات التي كنت عضواً فيها، ما استتبع انخفاضاً كبيراً في دخلي. لكنّ الرزق بيد الله لا بيد هؤلاء». لا يرى عبد الهادي أنّ ما قام به وما نتج منه من تبعات أمر استثنائي، بل أمر عادي جداً. «ما قمت به أمر طبيعي، لكنّ البلد هو الذي لم يعد طبيعياً. كنت أسمع عن بعض الفساد والعمولات في الخصخصة، لكنّ ما عايشته في صفقة «عمر أفندي» كان كارثة كبرى. الأمر لا يتعلق بالمفاهيم الاقتصادية، والخلافات السياسيّة، بل بالفساد الذي ضرب في الجذور. أصبح التخلص من قاعدة ضخمة بناها الشعب على مدى عقود مرهوناً بمزاج ومصلحة فرد لم يختره الشعب ولم يفوِّضه بيع البلد على هذا النحو». يكتسب موقف عبد الهادي أهميّة مضاعفة، حين نعلم أنّه لم يتربَّ أصلاً في القطاع العام، ولم يتدرّج فيه كرموز البيروقراطية المصرية. فيما رموز البيروقراطيّة أولئك، هم أنفسهم الأكثر حماسةً لبيع القطاع العام والإفادة من الصفقات.
لم يكن يحيى حسين عبد الهادي واحداً من هؤلاء الذين يطلقون الشعارات... ولم يكن أحد يتوقع من قبل أن تنطلق تلك الصرخة من داخل لجنة التقويم نفسها. الدرس الذي أعطاه لنخب بلاده هو أن المواطن المصري لم يفقد ضميره وصوته وممثليه الشرفاء... فالرجل الذي أمامك ليس فيه ما يستوقفك كثيراً للوهلة الأولى: إنّه لا يختلف في مظهره، وخياراته الفكريّة والدينيّة، ومودته الظاهرة، عن ملايين المصريين.


5 تواريخ

1954
ولد في القاهرة ونشأ في أسيوط

1977
تخرّج في الكلية الفنية العسكرية، ليترك الخدمة العسكريّة عام 1992

2004
تولّى منصب «مركز إعداد القادة»

2006
أبلغ عن الفساد في صفقة «عمر أفندي» وكان عضواً في لجنة التقويم. أسّس لاحقاً حملة «لا لبيع مصر» وأطلق عام 2008 حملة ضدّ برنامج الصكوك.

2009
إحياء حملة «لا لبيع مصر» واستمرار مواجهة الخصخصة