طفّار، حشيشة وسيارات مسروقة. يكفي ذكر هذه الكلمات ليعرف القارئ أننا في صدد الحديث عن مدينتي بعلبك والهرمل. وهذا ما يجعل مهمة تغيير هذه الصورة أمراً صعباً بالنسبة إلى أبناء الهرمل، من دون أن يكون مستحيلاً
مهى زراقط
ـــــ ما اسمك؟
* مفلح.
ـــــ اسم العائلة؟
* علّوه.
ـــــ مكان الولادة؟
* الكويخ.
دار هذا الحوار قبل سنوات قليلة بين شاب كان يتقدّم بطلب انتساب إلى إحدى المدارس المهنية في عين سعادة، والموظفة المسؤولة عن استقبال الطلبات. لكنه لم يجر بالسهولة التي يمكن قراءته فيها، بل هو استغرق وقتاً طويلاً، لكي تقتنع السكرتيرة بأن البيانات الشخصية التي يقدّمها لها الشاب الواقف أمامها صحيحة، وأنه ليس في وارد المزاح.
«مفلح؟ اسمك مفلح؟» سألته الموظفة مراراً، قبل أن تدوّن الاسم لتعود فتستنكر اسم العائلة «عِلاو؟». يهزّ الشاب رأسه مرتبكاً، كما تتذكر قريبته التي رافقته إلى المعهد، ويبقى متحسّباً للسؤال الثالث. «إيه الكويخ. كاف، واو، ياء، خاء».
يضحك مفلح وهو يتذكر هذه الحادثة مستطرداً: «لو لم أضبط أعصابي ذلك اليوم لما كنتم تأكلون من الطعام الذي أطبخه لكم الآن»، يقول لمجموعة من الراغبين في الابتعاد عن صخب يومياتهم واللجوء إلى الطبيعة، فالتقوا حول حساء شرقي اسمه «لقيمة» وصينية «مصقعة» ينطبق اسمها على الطقس البارد في جرود الهرمل.
نحن على ارتفاع نحو 2200 كلم. «فوق الغيوم» يحلو لإبراهيم أن يكرّر، وينصح بنقل هذا التعبير لكلّ من سيسأل عن أجواء المكان. لو كان الإرسال يسمح باستخدام الهاتف الخلوي، لما تأخر في الاتصال بأصدقائه ليخبرهم أنه يستطيع تمسيد الغيوم بيديه، والتحليق مثل الطيور في سماء يقترب فيها الحلم بالتقاطها من الحقيقة.
هناك، لا بدّ للأحلام أن تولد وتكبر. وهناك أيضاً، لا يمكن الأحلام إلا أن تصطدم بأرض الواقع. ومن كان قادراً على تمسيد غيمة أو مداعبة سماء، وحتى اللعب مع الشمس، لا يمكنه غالباً أن يتجاوز صورة سلبية انطبعت عن منطقة يصفها بجنة الله على الأرض. منطقة لا تعرفها وزارة السياحة التي لم يتجاوز نشاطها بعلبك، لكن يعرفها كلّ لبنان مأوىً للطفّار وتجار المخدرات وسارقي السيارات.
لذلك يحكي مفلح قصته مع الموظفة ضاحكاً. فهذا ليس إلا أبسط المواقف التي قد يواجهها ابن الهرمل. وهذا ما يؤكده مجموعة شبان تحلقوا قبل أيام حول صوبا حطب في خيمة من شعر الماعز في منطقة العميرة في جرد الهرمل.
حتى هذه الخيمة هي حلم يحاول أن يكتمل. فهي واحدة من عشر خيم أقامها حسين علّوه في الجرد، محاولاً تقديم صورة جميلة عن منطقته، وتحقيق حلمه بالبقاء أطول وقت ممكن في حضن الطبيعة. الحلم صعب لأنه مكلف ويقوم به شخص بمفرده، لكن التخلي عنه قد يكون أصعب خيار سيواجهه. هذا ما يقوله حسين، الأربعيني، الذي درس الرسم في كلية الفنون في بيروت وعاد إلى الهرمل ليعمل أستاذاً متعاقداً في المهنية.
يتقاضى حسين راتبه مرة في نهاية كل عام. «لا تسأليني كيف أعيش، أخجل أن أخبرك». لكن مفلح، الذي يعمل أستاذاً أيضاً، يفضحه: «يتقاضى راتبه، ويروح يتنقل بين دكاكين ومؤسسات الهرمل مسدّداً ديونه ليصل إلى منزله بجيب فارغ كما خرج منه».
يضحك الجميع، ومعهم حسين، السعيد بقدوم أصدقائه إلى الجرد. تعرّف إليهم زبائن في المرحلة الأولى لتأسيس مشروع الجرد مع جمعية «مدى» قبل نحو 6 سنوات. لكن ثمة خلافات حالت دون الاستمرار في الشراكة عام 2005، من دون أن تدفع حسين إلى التخلي عن حلمه رغم الصعوبات، «هذا الأمر ولّد عندي رغبة في التحدي، فقررت الاستمرار». الصعوبات تمتدّ أيضاً إلى عوامل الطبيعة، ومنها مثلاً قيامه، والشبان الذين يساعدونه، بإعادة نصب الخيم التي تزن أطناناً لكونها من شعر الماعز، في حزيران الماضي بعدما أتت عليها العاصفة. يروي حسين هذه الحادثة باسماً، ولمَ لا، ما دام يعدّ مشروعه جزءاً من محاولة التكفير عن «أكبر ذنب ارتكبته في حياتي، الصيد». يقول وهو يشير بيديه إلى الطبيعة المكشوفة أمامه: «اكتشفت لاحقاً أن هدفي لم يكن الصيد، بل السير في الطبيعة». هواية يحب أن ينشرها بين كثيرين، لذلك يوفر رحلات سير وتسلّق لمن يرغب من زوّاره. بعضهم يمكنه ممارسة أكثر من رياضة، كما فعلت مجموعة من أربعة شبان وصلت ليلاً إلى مشروع «الجورد»، كما يلفظ أهالي المنطقة كلمة الجرد، بعد مسيرة ساعات في الطبيعة. أمضوا ليلتهم في الخيمة واتجهوا في اليوم التالي إلى نهر العاصي لممارسة رياضة «الرافتينغ» أو التجذيف.
تحقيق هذا الأمر يكون عبر شبكة تواصل أقامها شبان المنطقة للترويج لمشاريعهم السياحية الصغيرة، في ظلّ غياب أي رعاية رسمية لمشاريع السياحة القائمة في المنطقة، التي يمكنها أن تمثّل نواة تنمية محلية إذا لقيت دعماً، ما يمكنه أن يقدّم صورة أخرى عن الهرمل وأهلها. لكن هل تريد الدولة فعلاً تغيير هذه الصورة؟
هذا السؤال يمثّل محور حديث إحدى السهرات في المخيم، تتفرّع عنه شكاوى شبان جامعيين يعودون صيفاً في منطقتهم ليعملوا فيها، فخورين بانتمائهم إليها. يدلّون على معالم المكان، فتشعر مع كلّ إصبع تدلّ على شجرة، أو نبع، أو قرنة أن ابن الهرمل يقول لك: «هل بتّ تعرف الآن ما هي الهرمل؟»، بحيث لا يمكنك إلا أن تشعر بمسؤولية نقل هذه الصورة إلى آخرين لا يعرفون.
هذا ما يفعله أيضاً مرتادو مشروع «الجورد» الذين أمضوا عطلة نهاية الأسبوع الفائت هناك. هم أصدقاء لحسين، وليس زبائن. منهم مازن، المحامي الذي أنهكه العمل المتواصل خلال شهور طويلة، فاختار قضاء إجازة قصيرة بعيداً عن كلّ شيء. كذلك جو، الذي يداوم على زيارة الجرد سنوياً. الأخير كان في طريقه إلى فيء شجرة لزّاب معمّرة ومطلة على الوادي، حين توقف ليقدّم «شهادة حية»، كما يقول، عن رأيه بهذا المشروع. «كلّ من يبحث عن سياحة بيئية 100% لن يجد مكاناً أفضل من العميرة. أنا تنقلت في كلّ لبنان، وأؤكد أن هذا المشروع هو الأفضل بيئياً».
يحافظ حسين على البيئة في المكان، بدءاً من الطريق التي يرفض تزفيتها، «لأن الزفت يجر الزفت» كما يقول، مروراً بأكياس النفايات التي وزّعها على مساحة المشروع الممتد على 900 ألف متر، وفرزها في وقت لاحق، وصولاً إلى تسخين المياه والإنارة بالطاقة الشمسية، وتوفير الصرف الصحي على ثلاث مراحل بحيث تصبح المياه صالحة للريّ في النهاية.
لكن، لا مزروعات لريّها في المكان، والسبب نقص المياه. يوضح حسين أن الأشجار التي تنمو على هذا الارتفاع هي الكرز والتفاح، لكن الموسم قصير، لأن الثلج يغطي المنطقة شتاءً بارتفاع خمسة أمتار. لذلك لا تجد إلا أشجار اللزّاب التي تتميز بكمية الأوكسيجين الذي توفره، إضافة إلى طريقة نموّها. فهي تحتاج إلى 18 شهراً لتنمو بعد زراعتها، فيما يكفي طائر اسمه الكيخن أن يأكل بذرها ويهضمه، وعندما يتخلص منه تنمو الشجرة بعد شهرين فقط.
هذه ليست إلا واحدة من قصص جرود الهرمل... عندما تصل إلى هناك، سيكون بمقدورك أن تسمع حكايات عن قرنة العشرة وبئر السَوَح، وسهل مرجحين حيث أمضى جبران خليل جبران طفولته.


«المعتر بكل الأرض»

قد لا يحتاج زائر جرود الهرمل إلى موسيقى ترافقه في سيارته. «عويل الصمت»، والتعبير للشاعر محمد علي شمس الدين، أفضل ما يمكن باحثاً عن الهدوء أن يسمعه. لكن أغنية زياد الرحباني التي يقول فيها: «المعتّر بكلّ الأرض دايماً هو ذاتو» تفرض نفسها على كلّ من يختار الوصول إلى الهرمل من طريق عكار. الحرمان نفسه يبرز في الطرقات الضيقة غير المعبدة، البيوت الصغيرة المتواضعة، وحتى في تسالي الأطفال.
قرب خيمة للمزارعين على طريق عكار نلتقي بمحمد، سيف، منذر ومصباح. أربعة أطفال كانوا يلهون قرب بقعة مياه، إلى جانب قطيع من الماعز. لكن عندما تتوقف السيارة وينزل ركابها لالتقاط صور من فوق الغيوم، على ارتفاع 1700 متر، يلحقون بها ويطلبون التقاط صورة لهم. هم من بلدة تلّ حياة في الشمال، يقولون، واصفين مرافقتهم لأهلهم بـ«الصيفية». تماماً كما يصفون مشاركتهم في التظاهرات المليونية التي غزت لبنان بالـ«كزدورة». «أكيد منعرف بيروت، رحنا أكثر من مرة ع المظاهرات»، يقول محمد ملوّحاً للكاميرا.