سين سين. حرفان يختصران معادلة إقليمية ترسم «السياسات الكبرى» لبلد قلّما التفت حكامه إلى الحياة اليومية لمواطنيه. لكنهما منذ 16 حزيران الجاري باتا يعنيان اللبنانيين واللبنانيات كافة. فالمعادلة هذه المرة تختصر اسم السيدة اللبنانية التي حكم لها القضاء اللبناني بحق منح جنسيتها لأولادها من زوج أجنبي: سميرة سويدان
مهى زراقط
لا تدوم الابتسامة كثيراً على وجه سميرة سويدان. ترسمها مجاملةً ثم تمحوها بسرعة كأنها تخشى عليها من الحسد، أو ربما لأنها تخاف الإفراط بالسعادة فتضيع منها. لكن هذا الحرص على الاقتصاد في الفرح لا ينجح. كلّ ما في الجسد الضئيل لهذه المرأة يدلّك إليه. قشعريرة بدن تحاول القضاء عليها مراراً بتدليك يديها المكتّفتين. ضوء في عينيها يلمع كلّما استعادت مع محاميتها سهى إسماعيل بعض تفاصيل القضية، وجمل مترابطة تكرّر الشكر لله والدعاء بأن يُتمّ الفرحة فتشمل كلّ اللبنانيات اللواتي يقاسين ما تقاسيه، فهي تختصرهنّ.
سميرة سويدان لبنانية منذ الولادة. تقيم في منطقة برج حمود. هناك تعرّفت إلى المصري محمود عبد العزيز أحمد. تزوجته عام 1985، ورزقت منه أربعة أطفال: زينة، فاتن، سمير ومحمد. حتى عام 1994، لم تشعر سميرة يوماً بحجم الخطأ الذي ارتكبته حين اختارت محمود، العامل في مرفأ بيروت، شريكاً لحياتها. فقد كان يعمل ويسدّد بدل إقامته في لبنان. لكنه عندما توفي، تاركاً إياها وأطفالها بلا معيل بدأت تكتشف حجم المأساة وتعضّ أصابع الندم لارتباطها برجل «يحرمها» إعطاء أولادها جنسيتها وجنسية البلد الذي ولدوا وعاشوا فيه كلّ حياتهم. «أكيد ما كنت تزوجتو لو من الأساس كنت عارفة بدي أوصل للي وصلت له» تقول. صحيح أنها أحبّته لكن معاناة أولادها هي ما يجعلها تقول هذه العبارة، وهي ما جعلت هؤلاء يقولون لها يوماً، ولو على سبيل المزاح: «ما لقيتي تتزوجي إلا مصري»!
بعد وفاة الزوج تحملت سميرة مسؤولية إعالة أولادها. فعملت في تنظيف المكاتب، لقاء أجر يومي. في السنوات الأولى، لم تبرز مشكلة الإقامة لأن الأولاد كانوا في المدرسة، لكنهم عندما بدأوا يكبرون بات عليها تسديد بدل إقامات تصل إلى 250 ألف ليرة سنوياً عن كلّ طفل. «صرت أشترك في جمعيات وأسدّد بدل الإقامات، وأحياناً كنت أستدين بالفائدة. وفي إحدى المرات تأخرت شهراً عن تسوية أوضاع أولادي فهدّدوني بترحيلهم. لا أنسى هذا اليوم كلّ حياتي. بكيت كثيراً، وصرت أخاف أن أموت قبل تسوية أوضاع أولادي».
الأمر الوحيد الذي ساعدها، هو عدم المرض، ما أتاح لها العمل من دون توقف لإعالة أولادها. «أطفالاً كنت آخذهم معي ليساعدوني في التنظيف، لكنهم عندما كبروا لم أعد أفعل ذلك، وتركتهم يتفرغون للدراسة». سميرة تعترف بأنها لم تعمل منذ يومين، لكن ليس بسبب المرض. الثلاثاء «أعصابي ما حملتني أشتغل بسبب الفرحة بصدور الحكم. وأمس الأربعاء بسبب الخوف من احتمال فسخه». تبتسم لها محاميتها سهى إسماعيل، فتستعيد تفاؤلها: «كانت الأستاذة سهى تشجعني وتقول لي خللي أملك بالله كبير... لذلك أثق بأن الخاتمة ستكون سعيدة» رغم صعوبة البدايات.
والبدايات تعود خمس سنوات إلى الوراء، عندما خطت الخطوة الأولى نحو القانون. فزارت أكثر من محامٍ رفض الدعوى. عام 2005 وافقت محامية على السير بها، ثم تراجعت يأساً من إمكان الوصول إلى نتيجة. في عام 2007 التقت محامية الاستئناف سهى إسماعيل عبر أحد الأقارب وأخبرتها قصتها. لم تتردد هذه المحامية الشابة في قبول الدعوى، وخصوصاً أن المعطيات المتوافرة بين يديها كانت تتيح لها تعليل مطالبتها. ولأنها تحب التحدي سارت في القضية. «أعرف أن لا نص في القانون، لكن المعطيات تتيح الاجتهاد. لم أشعر ولا مرة بأنني قد أفشل، بل كان أملي كبيراً بالنجاح فيها حتى قبل أن أعرف أن القاضي هو الرئيس جون قزي، وعندما عرفت أنه هو تفاءلت لأنه مشهور بإنسانيته وقراراته الجريئة». هذا ما كان فعلاً، وصدر الحكم العادل (النص الحرفي للحكم موجود على الموقع الإلكتروني لـ«الأخبار»).
تضحك سميرة وهي تقول إنها لم تصدق أنها ربحت الدعوى عندما اتصلت بها إسماعيل تبلغها بذلك. بل هي اعتقدت أن قانون الجنسية صدر «وصارت النسوان تروح وتجي عند المختار لأنهن اعتقدن أن قانون إنصاف المرأة صدر». أما سميرة، فقد ذهبت أمس إلى المحكمة، والتقت القاضي قزي وشكرته، فقال لها إنه قام بواجبه لا أكثر، وطلب منها أن تضيء له شمعة وتصلي لعائلته. تقول سميرة: «ما أنا أصلاً عم صلّيلو، أنا وكلّ أولادي».
اليوم، الخوف لا يزال قائماً مع الاحتمال الكبير للاستئناف، كما تؤكد إسماعيل: «نتوقع الاستئناف من الدولة ممثلة برئيس هيئة القضايا في وزارة العدل. لكنني لست قلقة، لأنه بالتأكيد سيكون هناك جون قزي ثانٍ يحكم بالعدل، فالجسم القضائي بألف خير»، متوقعة أيضاً الحصول على دعم من الرأي العام يساعد على تثبيت الحكم.
الدعم لم يتأخر، وهو أتى أمس من «اللقاء الوطني للقضاء على التمييز ضد المرأة»، مثمّناً في بيان له «الحكم القضائي الذي يستند إلى المادة السابعة من الدستور، كما يتميز بالمطالعة المهمة التي استند إليها». بدورها، رحّبت حملة «جنسيتي حق لي ولأسرتي» بالحكم الذي استند إلى مبدأ المساواة الكاملة والتامة، واستغرب ما نُسب إلى وزير العدل إبراهيم نجار من رد فعل أوليّ لجهة محدودية تطبيقه أو حتى إمكان استئنافه فيما كنا نأمل منه الإشادة بقرار القاضي جون قزي، أو بكلمة تشجيع للجسم القضائي، وأن لا يستبق الأمور بتوقعات تحبط الآمال بإمكان تثبيت الحق وتحقيق العدالة».
«الأخبار» استطلعت رأي نجار الشخصي في الموضوع، وخصوصاً مع تواتر أخبار عن انتقاده للحكم، فنفى الامر قائلاً: «هذا الحكم يخالف الاجتهاد الراجح، لكننا لا نعرف إن كان سيثبّت في المستقبل أو سيفسخ، الأمر عائد إلى القضاء».