حسن الشامي *«إن شعباً لا يُسمح له بحماية نفسه من أعدائه وضدهم، ليس شعباً، بل هو جثة حيّة. إن شعباً لا يُسمح له بحماية نفسه من أعدائه وضدهم، سيجد نفسه في وضعية المحكوم عليه بمصير قد يكون رائعاً من الناحية الإنسانية، لكنه بائس سياسياً وفي حالة يرثى لها: فهو منقاد (أو منذور) لأن يصبح ضحية التاريخ العالمي».
هذا الكلام المكتوب بنبرة نضالية وبأسلوب لا يعدم الجاذبية، لا يعود إلى داعية من دُعاة المقاومة أو الممانعة في المنطقة، ولا إلى شيخ من شيوخها، في المعنيَين الاثنين، من بين معانٍ أخرى لكلمة وصفة الشيخ، أي الإحالة على الأقدمية وطول الباع وإلى الرمزية الدينية. إذ هو يعود إلى كاتبة سياسية مرموقة، ألمانية المولد والمنشأ والثقافة، ويهودية الأصل قبل أن يتحوّل هذا الأصل إلى لعنة أنزلتها الوحشية النازية الحديثة والعلمانية على أقوام وأجناس وأعراق وإثنيات: إنها هنة آرنت. تجدر الإشارة إلى أن الفقرة المستشهد بها أعلاه مأخوذة من مقالة نشرتها آرنت في عام 1942، أثناء إقامتها في منفاها الباريسي بعد مغادرتها ألمانيا فراراً من القبضة النازية، وقبل مغادرتها فرنسا إلى الولايات المتحدة فراراً من القبضة ذاتها مرة أخرى. وتندرج المقالة الصادرة في عز الحرب العالمية الثانية في إطار نشاط نضالي دعوي وعملي، إذ كانت آرنت تعمل آنذاك على تشكيل وإعداد جيش يهودي لمحاربة النازية. لم تلقَ جهود آرنت ورفاقها النجاح الذي كانت تتمناه، ولم يتشكل جيش يهودي في أوروبا، وإن كان البريطانيون قد أنشأوا فرقة عسكرية من اليهود تخرّج منها ضباط سيكون لواحدٍ منهم دور بارز في حروب إسرائيل مع العرب: موشي دايان. هناك بالطبع أسباب كثيرة لإخفاق آرنت وأصحابها في بناء جيش يهودي ودعوته إلى خوض المعركة في أوروبا، حيث يترتب على نتائجها مصير أوروبا، وبالتالي مصير العالم. يمكن أن نعزو أحد أسباب الفشل النسبي هذا إلى أن ناشطي الحركة الصهيونية الأكثر «عضوية» والأكثر تمثيلاً للفكرة الصهيونية والأكثر التصاقاً بالإدارات الكولونيالية الأوروبية وسياساتها، كانوا قد أعطوا الأولوية لتنظيم وإعداد قواتهم ومضاعفة عتادها وعديدها في مكان آخر ولمجابهة بشرٍ آخرين لا علاقة لهم بالمشروع النازي العنصري والإجرامي مطلقاً: في فلسطين وضد الفلسطينيين الخاضعين للانتداب البريطاني.
لا نريد هنا الخوض في سيرة آرنت السياسية والشخصية، وإن كانت تجربتها وكتاباتها تستحق بالتأكيد الاهتمام، بل نريد التشديد على أن المقالة التي استقينا منها الفقرة الموضوعة أعلاه تنتمي إلى الأدبيات الموصوفة بأنها ظرفية، أي المتعلقة بظرف معين وبمناسبة معينة. على أن الكتابات والنصوص ذات الطابع الظرفي لا تعدم توظيف مقولات وأفكار ومبادئ قابلة لأن تكون عالمية. فهناك أقوال وعبارات مأثورة ومتداولة عالمياً وهي مأخوذة من نصوص ورسائل ومناسبات ظرفية. وهناك تجارب ومواجهات قتالية، غير متكافئة مطلقاً، حصلت في ظروف معينة، ولم تمنعها هذه الظرفية من الارتقاء إلى مصاف درس ومثالٍ عالميين من حيث المبدأ والقيمة، وخصوصاً في البلدان التي يكثر فيها اليوم مانحو الدروس والوعّاظ. مَن يجرؤ مثلاً على القول إن انتفاضة المقاومين المحاصرين في غيتو وارسو اليهودي كانت عملاً انتحارياً مجنوناً، أو أنهم اتخذوا من المدنيين، أي من أهلهم وذويهم، دروعاً بشرية، أو أنهم أيضاً أقدموا على مغامرة غير محسوبة وغير مسؤولة، بحسب ما سمعنا أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة. سنسارع إلى القول إن مناسبة هذا الكلام، بما في ذلك الاستشهاد بآرنت، هو الذكرى الواحدة والستون
للنكبة.
لن نتوقف عند مصطلح النكبة الصادر على الأرجح عن مخيّلة قومية رومنطيقية تتشوّق إلى المطابقة، سلباً أو إيجاباً، بين الجسم السياسي ومكوّناته التاريخية والاجتماعية والثقافية وبين الكيانات أو الوحدات الطبيعية المقدّرة من ذي
قبل.
لن نتوقف كذلك عند الشحنة الانفعالية التي ينضح بها مصطلح النكبة، مشفوعة بالرثاء والمواساة الذاتيَّين. سنبقى بعض الشيء في الظرفي.
فقد شاءت المصادفة أن تحتفل جريدة فرنسية واسعة الانتشار وموصوفة عادة بالرصانة (وهي جريدة «لوموند») بصدور عددها العشرين ألفاً، وأن تكون واجهة صفحتها الأولى مخصّصة في الوقت ذاته، بتاريخ 15 أيار / مايو الجاري، لزيارة بابا الفاتيكان إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية، احتفاءً بالعمر الإعلامي المديد الذي يرمز إليه رقم مدوّر جداً يضم أربعة أصفار (20000)، أصدرت «لوموند» ملحقاً تضمّن منتخبات من صفحاتها الأولى ما بين عام صدورها في 1944 والعام الجاري، بما في ذلك الصفحة الأولى لعددها الصادر بتاريخ 16 ـــ 17 أيار / مايو من عام 1948، أي إثر الإعلان عن ولادة دولة إسرائيل. وبذلك تقدّم إلينا الصحيفة المذكورة مناسبة للموازنة بين تغطيتها لحدث مؤسِّس جرى قبل واحد وستين عاماً، وبين تغطيتها لحدث مرشح لأن يكون عادياً وعابراً (زيارة بابا الفاتيكان) وإن كان يندرج في سياق تاريخي حافل بالاضطراب والصخب والعنف والنزاعات والصفقات وهي كلها من مفاعيل الحدث المؤسِّس (ما لا يقل عن سبع حروب متفاوتة الاتساع والوطأة خلال ستين عاماً). فلنبدأ من الراهن؛ العنوان العريض الموضوع في صدر الصفحة يقول ما يلي: «البابا يخيّب أمل الإسرائيليين ويريح الفلسطينيين».
ويقول العنوانان الفرعيان على سبيل الشرح المختصر للعنوان العريض: «في اليوم الرابع من زيارته إلى الأرض المقدسة، بينيديكتوس السادس عشر يدين في الضفة الغربية جدار الفصل الذي أقامته إسرائيل». وتقول العبارة ـــ العنوان الفرعي ـــ الثانية: «ينهي (البابا) هذا الحج السياسي جداً من دون أن يفوز بتعاطف (أو ترحيب أو استلطاف) الرأي العام الإسرائيلي».
لا حاجة ربما إلى القول إن المطلوب من هذه العناوين هو توليد الانطباع بأن زيارة البابا كانت فاشلة عموماً، لا إسرائيلياً فحسب، علماً بأن تغطية الوقائع في الصفحة الداخلية كانت أكثر مهنيّة، ولا نعلم ما هو المطلوب كي تكون الزيارة البابوية هذه ناجحة بحيث تحظى بترحيب الرأي العام الإسرائيلي، وبعنوان مختلف من صحيفة «لوموند».
قد نجد بعض الجواب بالرجوع إلى عام 1948، فقد وضعت صحيفة «لوموند» عنواناً هو التالي: «دولة إسرائيل المعلنة ولادتها هذه الليلة حظيت بسرعة باعتراف واشنطن». وهناك عنوانان فرعيان يقول الأول: «الاجتياح» العربي (الصحيفة نفسها وضعت المزدوجين) يسبقه قصف لتل أبيب. ويقول الثاني: «القوات اليهودية تحتل القدس».
العنوان الأول المتعلق باجتياح أو «غزو» عربي هو حكم قيمي مسبّق. العنوان الثاني المتعلق باحتلال القدس إخباري. وهناك بالطبع الافتتاحية الممدودة على طول الصفحة الأولى لمواكبة الحدث التأسيسي، وهي بعنوان بليغ: «انبعاث الدولة اليهودية». مطلع هذه الافتتاحية، الفرنسية مبدئياً، يقول ما يلي: «بعد ألفي عام من المنفى ينال الشعب اليهودي مجدداً استقلاله على أرض أسلافه».
يحقّق هذا الحدث، أمام أعيننا وفجأةً، «فصلاً جديداً من التاريخ المقدّس يقرّب بين عصرنا المادي والأزمنة التوراتية». وتضيف الافتتاحية فوراً: «دولة إسرائيل الجديدة وَضعت (أو تولّدت) بالعرق والدم والدموع. وقد تضافرت مآثر مقاتلي «الهاغانا» أو متحمسي الإيرغون مع عذابات ستة ملايين من بني إسرائيل (إذا جاز هذا التعريب لتسمية شائعة أوروبياً وهي israeilite) أحرقتهم النازية، كي ترى هذه الدولة النور». بعد هذا التقديم الخلاصي والرسولي تهبط الافتتاحية إلى أرض النثر والسرد السياسي ـــ الروائي، ولكن ليس من دون تحليقات. فهي تتحدث عن الغموض الذي اكتنف هذه الولادة، وكيف أن الأمم المتحدة التي صوّتت في 29 تشرين الثاني / نوفمبر من عام 1947 على خطة تقسيم فلسطين كانت عازمة على إنشاء دولة يهودية، ثم راح معظم أعضائها يتنصلون بعد يومين على التصويت من مسؤولية فعلهم. وكيف أن بريطانيا ظلّت حتى اللحظة الأخيرة تحارب على الأرض مشروع التقيسم. وكيف أن الولايات المتحدة ترددت، في ظل سباق محموم مع الاتحاد السوفياتي، ثم حسمت أمرها لاعتبارات انتخابية داخلية وخوفاً من أن يطلب اليهود حماية السوفيات. يأتي بعد ذلك الحديث عن المهمات الجسيمة الملقاة على عاتق «القادة الصهيونيين» لتنظيم دولتهم واستقبال «اللاجئين» إلى الأرض المقدسة. وتصل الافتتاحية إلى الجانب العربي، فترى أن المواجهات مفتوحة حتى تلك اللحظة، وأن المعركة واقعة لا محالة إلا إذا أوقف العرب هجومهم في اللحظة الأخيرة، الأمر الذي يتيح لملك الأردن أن ينشئ الوحدة العربية على الأراضي الموعودة لعائلته. ومن المحتمل جداً أن يتردد الملك الأردني ويعرّض مكاسبه الكبيرة للخطر. وعلى المستوى العربي نفسه، ترى الافتتاحية أن الحدث الجديد ثقيل النتائج، فـ «الكرة الفارغة للعروبة الجامعة، التي نفختها بريطانيا بعض الشيء، انثقبت»، أي «فقعت»، كما نقول بالمحكية. ومهما تكن نتائج النزاع، فإن الدول العربية موضوعة الآن أمام مسؤولياتها. فالجامعة العربية لم تحقق حتى اليوم إنجازاً واحداً على الصعيد الاجتماعي. وبدلاً من البحث في فلسطين أو في أفريقيا الشمالية (تلميحاً إلى الجزائر خصوصاً) عن مشتقّات (بدائل) تحويلية لاستياءات الجماهير العربية، سيجد القادة العرب أنفسهم مضطرين بسبب تطور الوضع في فلسطين إلى الإقدام على إصلاحات، وعلى تحسين مستوى العيش في الشرق الأدنى.
من الواضح أن هذه الافتتاحية المطوّلة تطمح إلى أن تكون برنامج عمل دعوي وإعلامي لتثبيت رواية ومنظار، مرشحَين للديمومة، لجملة النزاعات الناجمة عن المشروع الصهيوني في فلسطين واستراتيجيته. ويقتضي ذلك قطع الطريق على أي رواية تاريخية ـــ سياسية تدور على نشأة الدولة العبرية.
لا محلّ أصلاً للرواية وهي أخت التاريخ إن لم تكن والدته. فنحن، بحسب المقطعين الأوّلَين من الافتتاحية، أمام ملحمة ذاتية، إذ يبدو أصحابها أقرب إلى الانتصار على ذاتهم المنفية والمضطهدة منهم إلى تأسيس كيان سياسي ـــ جغرافي.
الدولة الجديدة المنبعثة من رماد عابر للتاريخ والمجتمعات والأوطان هي في عرف دُعاتها وصنّاع صورتها، مسرح بطولة متصلة ومستدامة، ويستدعي استقاء هذه الخرافة الملحمية التأسيسية طحن وتغييب روايات كثيرة. فالغائب الكبير عن هذه الرواية ـــ الافتتاحية هو بالضبط مَن يطلب منه الانحناء أمام الملحمة إلى حد القبول بأن تنشقّ أرض التاريخ وتبتلعه: الفلسطينيون.
غريب فعلاً أن لا تأتي افتتاحية فرنسية تزعم الرصانة على ذكر، مجرد ذكر، الفلسطينيين ومصيرهم، قبل الإعلان وأثناءه وبعده. مَن يصدق أنه أمام ملحمة استثنائية، وبالضبط في زمن أعلن نهاية الملحمة والبطل وحكايات التأسيس الأسطورية، تصبح روايات الآخرين في نظره أشبه بالقصص القصيرة، القصيرة جداً.
كلام آرنت المعروض في مستهل هذه المقالة ينطبق اليوم، وقبل اليوم، على كل شعب يقاوم بكل الوسائل المتاحة لكي لا يكون ضحية التاريخ العالمي.
* كاتب لبناني مقيم في باريس