عبد الأمير الركابي *الذين يتحدثون اليوم عن بديل شيعي مناهض لإيران في العراق هم بالأحرى أطراف غير واثقين بإمكان تحقيق ما يطمحون إليه. بعض هؤلاء تجاوزتهم التطورات في المنطقة، فلم تعد الخطط الأميركية اليوم في ذروة تطرفها ضد إيران أصلاً. وهذا التطور يمكن أن يجعل من المساومات بشأن المستقبل العراقي أكثر أرجحية من الضغوط والتهديدات. لهذا أصبح من المستحيل، على سبيل المثال، تصور تنفيذ مخططات كتلك التي تريد إقامة حكومة في المنفى، أو على جزء من التراب العراقي. وهذا الانحسار وضيق الآفاق أمام مخططات كهذه، يأتي بعد استهلاك جهود مضنية، بذلت خلال عدة أشهر، ما بين السعودية والقاهرة وعواصم عربية أخرى، وواشنطن طبعاً. لذلك، قد تكون المخططات تلك عُدّلت ثم أوكلت إلى «هيئة العلماء المسلمين» التي قررت أخيراً إعلان نيتها «طرح برنامج سياسي جديد».
أحد قادة الهيئة البارزين صرّح من سويسرا، حين كان في زيارة لجنيف بدعوة من إحدى المنظمات: «إن ما نقترحه يحتاج إليه الأميركيون». ويبدو أنه قد جرى تحوير الخطة، من حكومة منفى إلى حكومة انتقالية. فالشيخ حارث الضاري، الأمين العام لـ«الهيئة» أعلن الدعوة إلى «حكومة انتقالية تنبثق عن مؤتمر لجميع القوى بما في ذلك المنضوية منها في العملية السياسية الأميركية». وهذا اقتراح من الصعب تصوره عملياً، إلا إذا كان مقدمة، أو بديلاً مؤقتاً عن ضائع، لم يأت بعدُ أوان إظهاره للعلن.
ولكن الحالة العراقية تحكمها دينامية حادة تجعل الأمور تنقلب بسرعة وتتغير بلا توقف. والأشياء التي لا تجري المبادرة إلى تبنّيها في الوقت المناسب لا تعود ممكنة لاحقاً. ولو أن «هيئة علماء المسلمين» بادرت وقدّمت اقتراحاً كهذا قبل سنتين أو ثلاث سنوات، لاختلف الأمر تماماً. أما الآن، فالأرجح أن مقترحاً من هذه الشاكلة سيقابَل بالرفض، وسيعدّ من قبيل الرغبة في تقسيم البلاد، كما سيؤخذ بالاعتبار كون «الهيئة» تعاني مأزقاً وانحساراً واضحين، سواء في مكانتها الشعبية أو هيبتها، مثلها مثل جميع القوى الدينية والطائفية. فالمجتمع العراقي انقلب على القوى المذكورة، ولم يعد مستعداً لقبول مشاريعها التي أودت، خلال ست سنوات، نحو مزيد من الكوارث والتردي الشامل، فضلاً عن الاحتراب الطائفي المريع.
هل الخيار المذكور عملي وممكن؟ وبما وبمن يصطدم؟ قالت الأحداث الأخيرة أشياء لا يمكن إغفالها في المجال نفسه. فلقد «أطلق سراح» السيد مقتدى الصدر، وجاء إلى تركيا ليُستقبل على أعلى المستويات، وعقد ربما واحداً من أوسع مؤتمرات التيار الصدري منذ سنوات. هذا التطور المفاجئ، ترافق من جهة مع تغيّرات في خطاب «المجلس الإسلامي الأعلى» وتصريحاته، ومن جهة أخرى، مع إعلان سوريا وإيران، عبر لقاء الرئيسين الأسد ونجاد، «انتصار» معسكرهما. فسوريا كانت سعيدة بقرار المحكمة الدولية بخصوص الضباط الأربعة اللبنانيين، وإيران أكملت أخيراً على ما يبدو ترتيبات خطتها العراقية. وبعد التدقيق، ينبغي الاعتراف بأن الخطة مؤسسة على خلفية ذكية للغاية على مستوى الحسابات المنطقية والظواهر.
فالإيرانيون حرصوا على ألّا يُبقوا للأطراف الإقليميّين، ولا للأميركيين، أي مدخل جدي في العراق، من نوع ذلك الذي ظل البعض يأملون تحقيقه ضمن شروط الانسحاب الأميركي، أو باستغلال التغيّرات في المزاج والموقف الشعبي. فالائتلاف الذي كان المالكي قد أوحى باحتمال الخروج منه، أو عليه، بدأت أطرافه الرئيسية تميل إلى تتويج «المالكي محوراً رئيسياً»، أي قبول الاعتراف بقيادته. وحتى عمّار الحكيم يتحدث اليوم عن العروبة ويغازل القوميّين. أما عادل عبد المهدي، الرجل الذي لا يستهويه شيء سوى السلطة، ففتش إلى أن وجد رجلاً من بقايا الضباط الأحرار، بلغ من العمر أكثر من 90 عاماً، هو ناجي طالب رئيس الوزراء الأسبق، فزاره.
وبعد ست سنوات من تجاهله وتنكره لرفاق المنفى، المتفضلين عليه، من قادة الحركة القومية والعروبية، اكتشف نائب رئيس الجمهورية هؤلاء، وبدأ يتصل بهم، وهو يقول علناً «لكي لا يُقال عنا بأننا ضد عروبة العراق». أكثر من هذا، لم يعد عبد المهدي المنافس العنيد للمالكي على منصب رئاسة الوزارة، وهو اليوم لا يكف عن الاتصال به هاتفياً للتنسيق، باعتبار المالكي هو الأساس وموضع الزعامة والقرار.
إذن، ضَمن المالكي العودة إلى منصب رئاسة الوزراء. فإذا كان هذا قصده من تصريحاته ضد الطائفية والمحاصصة والفدراليات والدستور الموضوع من جانب الاحتلال، فها هو قد حقق انتصاراً على كل الجبهات: على الناخبين المخدوعين أولاً، وعلى الطائفيين الذين جاؤوه صاغرين يتصرفون بطريقة مضحكة ليس فيها أي قدر من الاحترام للذات أو للآخرين.
هذا الانحطاط في الأداء السياسي والقيمي لن يكون (وخاصة إذا قبله المالكي) من دون ثمن مضاعف. فالمجلس الأعلى، بنصيحة من إيران، ينصب بهذه الطريقة للمالكي فخاً ليس عارياً عن الإحكام كما يبدو للوهلة الأولى. فالميول التي أبداها المالكي خلال خوضه لحملته الانتخابية الأخيرة سوف يضعف مفعولها، وقد تتحول إلى مجرد دعاية انتخابية اقتضتها ضرورات آنية. واضح أنه قد جرت نصيحة «المجلس الأعلى» بخفض سقف طموحاته، والقبول بالمالكي قائداً للائتلاف، مع نية توسيعه تحاشياً لاحتمالات الخسارة، بضم بعض العناصر «القومية» والمستقلة العلمانية، وحتى التكنوقراط، كما قال عمّار الحكيم لا فض فوه.
فإن يكن هذا، يضمن للمالكي عودة مريحة إلى المنصب الذي لم يعد عادل عبد المهدي يحلم به، فقد صار هذا الأخير يأمل من المالكي أن يشمله بعين الرضى، فيعيده إلى منصبه الحالي.
كل هذه الاحتياطات لن تزيل خطر إطاحة التركيبة القائمة. لكن الإيرانيين، على ما يبدو، لم يتركوا أية ثغرة تفوتهم. لهذا اعتبروا الصدر قوة محورية لملء الفراغ الذي قد ينسحب منه المالكي، أو يخونه. هل المتغير الأكبر والخطر هو النزوع المتنامي إلى العلمانية، التي تمتزج في الغالب بالوطنية المناهضة للاحتلال؟ أفضل من يحاكي هذه ويتناغم معها، لا بل وقد يملك أن يحتويها، هو مقتدى، إذا غيّر أداءه، وحسّن صورته، وراجع مواقفه الطائفية أو التي أُقحم فيها. عند ذاك قد تتولد فرصة لمستوى ثان من التدخل التحكمي الإيراني، ولو المحدود بالتطورات الجديدة.
فهل سيتحرك الصدر من هنا فصاعداً لعقد تحالفات مع العلمانيين الوطنيين، وهل هذا هو الحل للمعضلة الأصلية الناشئة منذ شهور؟ قد تبدو الأمور لمن وضعوا الخطط والمقاسات، وقرروا التحالفات والمستويات، شديدة الإحكام.
ولكن هذا التزلف للقوميين والعلمانيين، الذي يراهن على دفعه ثمناً لسد كل الثُّغر والتحايل على خسارة الحكم، ليس بقليل إطلاقاً. وهو يعزز العوامل التي أفضت إلى تراجع مواقع القوى الطائفية والدينية خلال الانتخابات الأخيرة. لكن، وبغضّ النظر عن هذه المخططات، فالمشكلة تبقى في تزايد إلحاح الحاجة إلى التجسيد العلماني للسياسة والدولة.
هكذا تسير الأحداث قدماً مهما تعقّد المشهد. ومن يتصورون أنهم أحكموا الطوق وختموا العلبة، سيفاجأون بسبب ما أهدروه في المقابل من رمزية ومسلكية ضرورية قصوى لإرساء نظام مقبول في العراق، بخروج «الجن» الذي لن يقول «شبيك لبيك» إلا لمن يملكون سر المصباح السحري: تجديد وطنية عراقية موحدة، تتماثل مع مطمح العراق وتاريخه في طوره الثالث، ما بعد الدكتاتورية، وما بعد الطائفية المتلبسة لبوس الدين والعاملة بوحي من الاحتلال وأغراض إقليمية.
* كاتب عراقي