إيلي شلهوب«لا بد من جعل الانسحاب من لبنان انسحاباً من حقبة وسياسة، ولا بد من إقامة علاقات غير استخباريّة معه تحفظ أمن البلدين،... ولا بد من فتح حوار مع اللبنانيين ينطلق من قاعدتين حدّدهما الدكتور بشار الأسد هما: المسافة الواحدة من الجميع، والقبول بما يتوافق هؤلاء عليه. ولا مفر من إجراء إصلاح داخلي سوري يؤسّس لدور قومي وإقليمي يخدم مصالح البلاد العليا وحدها، ويعيد إنتاج الدولة من خلال مرحلة انتقالية ـــــ تستمر عاماً أو عامين ـــــ تحوّلها دولة قانون، تعترف بحق الجميع، أفراداً وهيئات ومنظمات، في الحرية، وتنهي دولة الاستثناء وما ترتّب عليها من قوانين وأساليب حكم وإدارة وامتيازات وفساد... وقمع واعتقال، ليقوم نظام ديموقراطي ينتجه تبادل منظّم للسلطة، وتحكمه صناديق الانتخاب. بغير ذلك، لا يكون النظام السوري قد تعلّم شيئاً» من «درس لبنان».
كان ذلك خلاصة موقف ميشال كيلو في تلك اللحظات الحرجة التي سبقت الانسحاب السوري من لبنان، ذات يوم من نيسان عام 2005. كلام أراد من خلاله التعبير عما يراه مخرجاً لـ«الحال العصيبة التي بلغتها السياسة السورية خلال العامين المنصرمين، منذ طلب كولن باول في أيار من عام 2003 إنهاء دور سوريا الإقليمي في لبنان، وفلسطين والعراق، ووضعه في خدمة السياسة الأميركية تجاه المنطقة» في ظل «العزلة الخانقة، التي يعيشها اليوم بلد كثيراً ما اعتبر نفسه مفتاح الشرق العربي، وبيضة قبّان الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، ونقطة توازن الشرق والغرب في العالم العربي، والجهة التي تمسك بالتوازنات العربية والإقليمية».
مرت الأيام وتزايدت حدة التوتر في العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، بعدما سقطت بيروت رهينة أكثرية علا صراخها منادية بإسقاط النظام الحاكم في دمشق. أصوات نزعت قناع الاتزان وخلعت رداء الأدب السياسي، بعدما أعمى بصيرتها وهج «ثورة الأرز»، والرهانات على الدعم المزعوم الآتي لا محالة من بوش وكوندي.
في هذه «الأوقات العصيبة»، بادرت مجموعة من المثقفين السوريين، من كل تلاوين المعارضة السورية، ومعها مجموعة من المثقفين اللبنانيين، إلى توقيع وثيقة شهيرة سمّيت «إعلان بيروت ـــــ دمشق، دمشق ـــــ بيروت»، تستهدف «التصحيح الجذري» للعلاقات «وفقاً لرؤية وطنية مستقبلية مشتركة». «إعلان» استفزّ السلطات السورية التي سارعت في أيار 2006 إلى اعتقال نحو عشرة من الموقّعين السوريين، في مقدمتهم ميشال كيلو. لم تشفع له حقيقة أنه صاحب الفضل الأكبر في تشذيب هذا «الإعلان»، الذي يؤكد بعض العارفين أنه لولا تدخله لصدر بشكل مختلف كلياً، ولا واقعة أنه من الفريق الذي يؤكد «ضرورة إحداث قطيعة جذرية ونهائية مع أي استقواء بالخارج» مع تعهّد بـ«القتال تحت قيادة النظام ضد أي غزو»، على قاعدة أن هناك «محظورَين لا يجوز التساهل حيالهما: الفتنة في الداخل والتدخل الخارجي»، ولا كونه المنادي بـ«حوار هادئ وسلمي وتدريجي وآمن مع النظام لأنه لا حل من دون النظام أو ضده».
كلها مواقف لم تحمه من الإدانة بتهمة مبتكرة ملخّصها «إضعاف الشعور القومي وإثارة النعرات المذهبية والقومية»، في ظل حملة اتهامات إعلامية محورها أنه كان يقيم صلات بكل من وليد جنبلاط ومروان حمادة، سعى جاهداً إلى نفيها، مؤكداً أنه لم يلتقِ أياً منهما في حياته.
إدانة مُدانة أدخلته السجن لثلاث سنوات، تحوّل خلالها إلى رمز لضحايا حرية الرأي، مع تصاعد الحملة المطالبة بإطلاق سراحه، التي بلغت الأسد نفسه، الذي رأى أن كيلو «وقّع إعلاناً مشتركاً مع وليد جنبلاط، في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير يدعو الولايات المتحدة علناً، قبل عامين، إلى اجتياح سوريا والتخلّص من النظام. فوفق قوانيننا، لقد تحوّل (جنبلاط) إلى عدوّ... وكي يُطلَق سراح ميشال كيلو، المطلوب عفوٌ رئاسيّ، أنا مستعد لذلك، ولكنّني أريده أن يعترف بخطئه، لأنّه كان مخطئاً. وهو يرفض ذلك. إذاً سيبقى في السجن»، على ما نقل آلان غريش عن الرئيس السوري (ملاحظة: جنبلاط لم يكن من موقّعي هذا «الإعلان»).
وهكذا كان. لم يعتذر كيلو وبقي في السجن، حيث أمضى محكوميته كاملة، بل بزيادة بضعة أيام. خرج ليل الثلاثاء الماضي عليل الجسد، لكنه متوقّد الذهن. على الأقل هذا ما تشير إليه تصريحاته لوكالة «آكي» الإيطالية للأنباء، التي نقلت عنه قوله إن «المهمة أصبحت الآن أن نُخرج الموقوفين من السجون، وأن نستأنف هذه المسيرة التي لم تتوقف، كُبحت قليلاً لكنها لم تتوقف، وأعتقد أنها لن تتوقف».
ثلاث سنوات مضت ولا يزال «درس لبنان» حاضراً في الأذهان، رغم تبدّل المعادلة وتغيّر موازين القوى. درس اختلفت الأطراف المعنية بشأن العبر التي يمكن استخلاصها منه، لكنها أجمعت على أنه سبّب الكثير من المآسي للبنان ولسوريا، جسّد ميشال كيلو واحداًً من أوجهها.