يغوص الباحث المصري في الشؤون الإسلامية، حسام تمام، في هذا المقال، في أعماق العوامل والظروف التي حكمت سلوك الحركات الإسلامية إزاء «المراجعات». وينطلق تمام من مقارنة سلوك تلك الحركات بين كل من مصر والمغرب، لما للفوارق بين الحالة الإسلامية في هذين البلدين، من أهمية كبيرة، حكمت ولا تزال، علاقة الدولة ـــ النظام بالفرق الإسلامية، السلفية منها والجهادية وغير التكفيرية. وينطلق كاتبنا من محطات تاريخية مفصلية، عام 1997 في مصر نموذجاً، تاريخ إعلان الجماعة الإسلامية في مصر مبادرة وقف العنف
حسام تمام *
تصاعدت ظاهرة ما بات يعرف بـ«المراجعات» بين عدد من الجماعات الإسلامية التي كانت قد انتهجت سبيل العمل المسلح منهجاً في التغيير أو تبنت قناعاته. افتتحت الجماعة الإسلامية في مصر المراجعات عقب إعلانها مبادرة وقف العنف في عام 1997، وأنجزت فيها ما يزيد الآن عن عشرين كتاباً نقضت فيها الأساس الشرعي والفكري لخروجها على الدولة وحربها ضد النظام. كانت تجربة الجماعة الإسلامية المصرية البداية والنموذج الذي أخذ مساره لدى غالبية التنظيمات والجماعات التي تنتمي إلى المدرسة نفسها. كما كانت النموذج الذي سعى الكثيرون لاستلهامه في مواجهته مع هذه الجماعات ومع الفكر الجهادي عموماً، فجرت محاولة استلهام تجربة المراجعات المصرية وأحياناً استنساخها في بلدان مثل الجزائر والسعودية وليبيا والمغرب.
ورغم وجاهة الدعوة إلى الاستفادة من تجربة المراجعات المصرية، إلا أنه من الضروري أن تسبق هذه الدعوة قراءة مدققة للسياق الذي جرت فيه تجربة المراجعات لإدراك جوانب الخصوصية في الحالة المصرية، ومدى إمكانية القول بتعميمها على حالات أخرى في وطننا العربي، وخاصة في المغرب التي يدور فيها نقاش واسع بشأن استعادة تجربة المراجعات في التعامل مع ما بات يعرف بالسلفية الجهادية.

اختلاف علاقة الدولة بالدين بين مصر والمغرب

أول ما ينبغي التوقف عنده في استحضار التجربة المصرية هو طبيعة العلاقة بين الدولة والدين، في كلتا الحالتين وأوجه الاختلاف بينهما، بما يمكن أن ينعكس على فهم فكرة المراجعات ذاتها فضلاً عن إمكانية الاستفادة منها.
فالدولة المصرية، ورغم اعتمادها الإسلام الدين الرسمي للدولة، والشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، إلا أنها تبقى دولة حديثة شبه علمانية لا تؤسس أي شرعية لها على أساس ديني، وفيها يبقى الإسلام دين الدولة، لكن بعموميته، ودون تفصيل لانعكاسات ذلك وتطبيقاته على النظام السياسي. وهي، وإن سعت إلى الاستثمار في الدين وتوظيفه لمصلحتها السياسية وفي مواجهة خصومها، إلا أنها تظل على مساحة من الحياد الديني لا تتبنى معها رؤية دينية محددة، بحيث لم يعرف لها مذهب أو أيديولوجيا دينية معينة. وهي، وإن صادرت المؤسسات الدينية وألحقتها بالإدارة السياسية للدولة (الأزهر الشريف والأوقاف والإفتاء...) إلا أنها ما استطاعت يوماً أن تفرض سيطرتها كاملة على المجال الديني الذي بقيت مساحات واسعة منه عصية عليها بل خاضعة في كثير من الأحيان لسيطرة خصوم الدولة.
أما المغرب، فيبدو على النقيض من مصر في علاقة الدولة بالدين. فالدولة المغربية تتأسس على شرعية دينية تمثلها إمارة المؤمنين والبيعة الدينية للملك. والشرعية الدينية منصوص عليها دستورياً وينبني عليها مجمل النظام السياسي المغربي. وللدولة المغربية مشروع ديني واضح ومتكامل لهيكلة الحقل الديني صاغت فيه رؤيتها الدينية التي تقوم على أركان أربعة هي: الأشعرية في الاعتقاد، والمالكية في الفقه، والتصوف في السلوك، وإمارة المؤمنين أساساً للنظام السياسي.
وفيما تبقى الدولة في مصر محايدة إزاء تعددية الخطابات الدينية ما لم تتحول إلى تهديد مباشر للنظام السياسي، فإن لدى الدولة المغربية حساسية مفرطة تجاه أي خطاب ديني يخالف تصورها الديني المكتوب والمحدد والمراقب بعناية من مؤسساتها الدينية القوية والفاعلة، وفي مقدمتها وزارة الأوقاف التي هي وزارة سيادية من اختصاص الملك (مثل الخارجية والداخلية والإعلام)، والوحيدة من بين الوزارات التي يقع مقرها في محيط القصر الملكي! وحساسية الدولة المغربية تجاه أي خطاب ديني مختلف مع مشروعها ليس رهناً باحتمالات تطوره لتهديد سياسي للدولة، بل هي دائماً ما تستبق لمواجهته والعمل على حصاره وربما اجتثاثه من البيئة المغربية، حفاظاً على ما تراه انسجاماً دينياً وسلاماً روحياً قد يكدّره الخروج على المستقر والمعمول به من قواعد التدين المغربي.
ولهذا، واجهت الدولة المغربية السلفية العلمية وأغلقت كل معاهدها الدينية في البلاد العام الفائت، على الرغم من أنها سلفية منزوعة السياسة بل دائماً ما كانت توظف في الأغلب لمصلحة النظام ضد خصومه. ولهذا أيضاً، واجهت التشيع ومؤسساته ورموزه قبل أن يتمظهر في كيان سياسي، وهي دائماً تستبق بالمواجهة أي طرح ديني يمكن أن يؤثر على الرؤية الدينية التي تتبناها.

... واختلافهما في علاقتهما بالحركات الإسلامية

وينعكس الاختلاف في طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين على علاقة هذه الدولة بالحركات الإسلامية السياسية، وأي فاعلين دينيين مستقلين عنها عموماً، وخاصة في ما يتصل بفكرة الشرعية ومصدرها. فرغم قوة الدولة في مصر وما أنجزته في سعيها لمصادرة المؤسسات الدينية وضمان إخضاع المجال الديني لهيمنته ـــــ وذلك بدءاً من محمد علي مؤسس الدولة الحديثة الذي بدأ السيطرة على مؤسسات الأزهر والأوقاف، ثم جمال عبد الناصر الذي قطع الشوط الأكبر في هذه المهمة بقانون إصلاح الأزهر وإلغاء الأوقاف ومؤسسات القضاء الشرعي ـــــ ما استطاعت الدولة المصرية إحكام السيطرة التامة على المجال الديني الذي طالما تقاسمته معها جماعات وهيئات أهلية وحركات وتنظيمات إسلامية سياسية، قد تنجح الدولة في إضعافها وتفكيكها أحياناً، لكنها فشلت دائماً في إلحاقها وإخضاعها لشرعيتها، فبقيت هذه الحركات تنازع الدولة شرعيتها السياسية حيناً، أو تكتفي أقله ببسط شرعيتها هي على المجال الاجتماعي حين تفشل سياسياً!
لقد بنت الحركة الإسلامية المصرية، على اختلاف تنظيماتها، شرعيتها على أساس الاستقلال عن الدولة، بل أسست هذه المشروعية من خلال معارضة ليس النظام فقط، بل الدولة الحديثة نفسها. وطرحت شرعيتها كشرعية مستقلة بل منافسة لشرعية الدولة. لقد أسست شرعيتها بمعزل عن الدولة ورغماً عنها وضداً منها، وحافظت على هذا حتى في لحظات ضعفها.
وربما حاولت الحركة الإسلامية المغربية شيئاً من هذا في بدايتها لكنها سرعان ما أدركت استحالة نجاحها في ذلك في دولة تهيمن كاملاً على المجال الديني ولا تترك فرصة لأحد بالدخول عليه إلا من خلالها ولخدمة سيطرتها الكاملة عليه.
لذا، سرعان ما أعادت الحركات الإسلامية بالمغرب بناء أساس شرعيتها ليس على تصالح مع الدولة، بل على أساس أن الدولة نفسها مصدر شرعيتها. فالحركة المغربية، بتنوعاتها وبدرجات متفاوتة، لا تستطيع طرح شرعيتها بمعزل عن الدولة المغربية، بل هي تتوسل هذه الدولة مصدراً للشرعية، ولا تطمح إلا إلى الاستمداد منها. هذا مع فروق طفيفة بينها، كمية وليست نوعية، وذلك بسبب قوة الشرعية الدينية للملكية في المغرب وتجذرها وقدرتها على التجدد.
وفي الحالة المصرية، استطاعت الحركات الإسلامية السيطرة على الفضاء الاجتماعي العام وإخضاعه لها، بل إخضاع الدولة نفسها لمنطقها. إذ يمكننا القول بشيء من التعميم المقصود إن المجال العام والفضاء الاجتماعي في مصر هو إسلامي، ويتمثل الأطروحة الإسلامية دون حاجة للحركة الإسلامية.
لقد صارت مصر إسلامية حتى دون سيطرة الإسلاميين على الدولة. نعم لم يسيطر الإسلاميون على الدولة لكن سيطرت أطروحتهم على الأقل في المجال العام في مصر. هذا فيما لا يزال الفضاء العام بالمغرب بعيداً عن سيطرة الإسلاميين، فهناك الدولة المغربية القوية في إحكام سيطرتها، وهناك التيارات اليسارية القوية وصاحبة النفوذ التاريخي، وهناك اللوبيات الغربية، وخاصة الفرنكفونية، القادرة على فرض تصوراتها، وخاصة في المجال الاجتماعي، فيما يبقى نفوذ الإسلاميين ضعيفاً رغم أنهم الأقرب في معظم الأحوال من الشارع المغربي.
إذاً تسيطر الدولة في المغرب على المجال العام تماماً، ومن ثم، فهي ما زالت قوية وقادرة على ضبط الفضاء الديني والتحكم به، بما فيه المكوّنات الحركية بل السلفية منها، رغم أن الأخيرة مفترض أنها الأبعد عن المغرب دولة ومجتمعاً، والدولة المغربية قادرة على فرض منطقها على الحالة الإسلامية بدعوى الخصوصية المغربية، وضرورة الدفاع عن «الإسلام المغربي»، وهي الفكرة التي كانت بمثابة عصا موسى تتلقف كل ما طرحه الفاعلون الإسلاميون المعارضون للدولة قبل غيرهم، بحيث انتهت الدولة كمرجعية للجميع في شكل الإسلام الذي يمكن أن يدعو إليه. ولم تكن السلفية بعيدة عن التأثر بقوة الجذب لشرعية الدولة ولنموذجها المتصور للإسلام (الإسلام المغربي)، وأتصور أن النقاشات المستمرة بشأن العلاقة بين السلفية والأشعرية، وما يطرحه كثير من السلفيين من حصر خلافهم مع الأشعرية في الأجيال المتأخرة، وحديثهم عن أنهم مع الأشعرية كما انتهى أبو الحسن الأشعري في نهاية حياته... كل ذلك يعكس رغبة حقيقية، وإن كانت غير صريحة، من جانب رموز سلفية على التوافق مع نوع ما من الأشعرية باعتبارها عقيدة الدولة، وهو ما يمكن أن تبني عليه الدولة في استيعاب التيار السلفي دون النظر إليه كتهديد للتصور الديني الذي تتبناه.

الاختلاف الكبير بين الحركات الجهادية

أما إذا تكلمنا عن التجربة «الجهادية» ذاتها التي تم التراجع عنها في مصر، ويراد الاقتداء بها في المغرب، فستظهر فروق مهمة قد تكون لمصلحة الحالة المغربية التي تبدو أيسر كثيراً وأكثر قابلية لتجاوز التجربة، وربما تجنب الدخول فيها ابتداءً.
في مصر، وهو ما ينطبق على الحالة الجزائرية أيضاً، كانت هناك حركة جهادية كبيرة ومؤطرة فكرياً وتنظيمياً، وكانت تتحدى ليس سلطة الدولة فقط، بل أصل وجودها. كانت مصر تعيش فورة جهادية تتكاثر فيها التنظيمات المسلحة كالفطر، وكانت من عنفوانها قادرة على تجنيد عشرات الآلاف وتوجيههم فكرياً باتجاه العنف والخروج على النظام.
ربما ليست هناك إحصاءات دقيقة تكشف العدد الفعلي لأعضاء الجماعات الجهادية في مصر، لكن يكفي القول إن تقديرات عدد المعتقلين منهم في عقدي الثمانينيات والتسعينيات كانت تزيد عن ثلاثين ألفاً، تعترف الجماعة الإسلامية وحدها بعضوية اثني عشر ألفاً منهم! هذا غير عشرات التنظيمات الأخرى مثل الجهاد وطلائع الفتح والشوقيين والناجين من النار...
كانت للتنظيمات الجهادية في مصر قاعدة اجتماعية كبيرة تنهل منها، شبكات من المساجد والجمعيات والمؤسسات الأهلية، وانتشار ساحق في الجامعات والأحياء الشعبية وأحزمة الفقر والتهميش، وكان انتشارها من القوة بحيث صارت أحياء كاملة تخضع لإدارتها حتى سمعنا عن «جمهورية إمبابة» التي وإن كانت تحمل من المبالغة الكثير، لكنها تشير إلى قدرة الجماعة الإسلامية على السيطرة على مناطق كاملة بحجم حي إمبابة الضخم وإدارته كما لو كان دولة مستقلة.
وشيدت الجماعات الجهادية في مصر تراثاً كاملاً يؤسس لفكرها الانقلابي وخروجها على الدولة. لقد صارت تتوافر على بناء فكري شرعي متكامل يمدها بالذخيرة الأيديولوجية. لم تكتف هذه الجماعات بالتراث الشرعي والفكري لأبي الأعلى المودودي وسيد قطب، بل ساهمت بكتابات حديثة من «رسالة الإيمان» لمصلحة سرية إلى «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، وانتهاء بـ«العمدة» للسيد إمام الشريف، فضلاً عن الرسائل والكتب الجماعية التي كانت تصدرها مثل «ميثاق العمل الإسلامي».
لقد كانت الدولة المصرية بإزاء حركة ثورية كبرى كان مشروعها ليس الاحتجاج أو المعارضة التي يمكن التفاوض معها والتفاهم، بل إنهاء الدولة نفسها. وكانت قد نجحت في القضاء على رأس الدولة (اغتالت الرئيس السادات عام 1981) وخاضت مواجهات عنيفة مع أجهزتها، وكلفتها خسارة اقتصادية كبيرة بتوجيه ضربات موجعة لقطاعات مؤثرة مثل السياحة.
بالقطع، ليس هناك أي مقارنة بين الحالة الجهادية المصرية التي قامت بالمراجعات، وبين ما يعرف بالسلفية الجهادية في المغرب. فهذه الأخيرة لا تمثل تياراً في الشارع المغربي، وليس لها قاعدة اجتماعية، وليس لها شبكات داعمة سواء مالياً أو حتى دينياً، بل ليس لها بناء فكري محدد، فضلاً عن بنية تنظيمية مؤطرة.
وأتصور أن من يعرف ما تعنيه السلفية الجهادية ربما يميل للتشكيك في انطباق هذا الوصف على ما يعرف بالسلفية الجهادية في المغرب، ليس فقط لأن رموز هذا التيار تبرأوا من هذه التسمية وما تحمله من دلالات، بل لأن الباحث في أدبياتهم، وهي قليلة لا تجاوز بعض الخطب، يجدها أقرب لتيار السلفية العلمية وربما التقليدية البعيدة كل البعد عن الجهادية!
إن أقصى ما بلغته التجربة الجهادية في المغرب، وهو تفجيرات أيار/ مايو 2003 ثم تفجيرات الدار البيضاء 2007، لم يتجاوز رغم بشاعته عمل الخلايا الصغيرة التي سيظل إمكان وجودها وارداً دون أن تمثل حالة أو تياراً جهادياً يمكن أن يهدد الدولة.

الفارق: تراث «الدولة»

أما ما يستحق تأمله في التجربة المصرية للمراجعات، ويصلح مؤشراً لقياس إمكانية تعميمها، فهو ما نسميه بتراث الدولة والتعويل عليه في ولادة المراجعات ورعايتها وإدارتها بالشكل الذي خرجت عليه.
من المفارقات الجديرة بالاهتمام أن الدولة في مصر، وليس النخب السياسية والفكرية، هي من التقط فكرة المراجعات وتبناها ورعاها، فيما تعاملت كل التيارات السياسية والفكرية بسلبية، بل وقف بعضها ضد الفكرة انتصاراً لصراعه الأيديولوجي مع الحركة الإسلامية.
إن تراث الدولة الذي كان سبباً في رفض الحوار مع الجماعات الإسلامية أثناء المواجهات معها، تغليباً لمبدأ الحفاظ على هيبة الدولة التي قد يمسها، ما يبدو تنازلاً للخارجين عنها، هو نفسه التراث الذي دفع مؤسساتها لالتقاط إشارة المراجعات من الجماعة الإسلامية بعد انكسارها عسكرياً والتعاطي معها إيجابياً ورعايتها لوقف نزيف المواجهات، من دون أن تعطي آذانها لنخب كانت راغبة في استمرار المواجهات لتصفية الحالة الإسلامية برمتها وليس التيار الجهادي فقط.
كما أن تراث الدولة نفسه هو ما دفعها للاستمرار في تجربة المراجعات دون التأثر بمناخ دولي كان آخذاً بالتشدد في المواجهة مع التيارات والأفكار الجهادية دون تمييز، ولم يكن بالإمكان معه إدارة هذه المراجعات التي تتطلب محاولة التعاطي مع خرائط فكرية وشرعية دقيقة ومعقدة كخرائط الألغام!
* باحث في شؤون
الحركات الإسلامية