لطيفة بوسعدن *«طي صفحة الماضي»، «سنوات الرصاص»، «ماضي الانتهاكات الجسيمة»، «جبر الضرر الجماعي»... مفاهيم جديدة دخلت قاموس الممارسة السياسية المغربية بداية التسعينات وما زالت تنتج مضامينها الخاصة بها، حتى بعد الانتهاء الوظيفي لأعمال «هيئة الإنصاف والمصالحة» (كانون الثاني/ يناير 2004 تاريخ تنصيبها من طرف الملك، وتشرين الثاني/ نوفمبر 2005 تاريخ تقديمها تقريرها النهائي عن فترة تاريخية دقيقة حددت فيما بين 1956 و1999). فترة حرجة، تسكنها صفحات صامتة وعرة الولوج. اعترفت الهيئة نفسها بأنه يصعب عليها فهم متاهات هذه الفترة، فاشتغلت وفق قدراتها وحسب الإمكانات المتوافرة لها.
اليوم يتحدث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان عن بداية مسلسل حفظ الذاكرة. وهو المجلس المكلف رسمياً متابعة التوصيات التي انتهى إليها عمل الهيئة. توصيات كان ضمنها بند يتعلق بترميم المعتقلات السرية وتحويلها إلى فضاءات ثقافية واجتماعية بموازاة تفعيل عملية ذات طابع فكري تتمثل في تحليل تاريخ الاعتقال السياسي وتوثيقه. وكأن للذاكرة جغرافيتها الخاصة، فالمعتقل السري غالباً ما وجد في مناطق نائية طبعها التهميش الممنهج بمختلف أشكاله. ومن هنا نفهم لماذا تهتم عمليات صيانة الذاكرة وجبر الضرر الجماعي بمناطق بعينها، مست لوثة القمع السياسي سكانها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا ما يربط جبر الضرر بالبعد التنموي للعملية، من أجل إخراج تلك المناطق المحلية من حالات التهميش، خاصة في الجانب الاقتصادي.
غير أن الملاحظ هو كون الاتفاقية التي عقدها أخيراً المجلس الاستشاري مع وزارة الإسكان في سياق جبر الضرر الجماعي تروم إلى تأهيل السكن في هذه المناطق لا تأهيل البشر. علماً أن جبر الضرر الجماعي يحتاج إلى إمكانات ضخمة، لكن ما جدوى حضور تمويلات الاتحاد الأوروبي لعملية حفظ الذاكرة في المغرب، إن لم تعطَ الأولوية للمشاريع التنموية للأماكن التي تمثّل مسرحاً أساسياً لبناء الذاكرة.
إن الإجراءات الرمزية والمادية، كإعادة هيكلة المعتقلات أو بناء الأنصاب التذكارية أو حتى القول بالحقيقة الكاملة، مع ما يعنيه ذلك من مساءلة جنائية لمرتكبي الانتهاكات ـــ وهذا طبعاً ما لم يحدث فعلياً في المغرب ـــ تبقى غير كافية إذا ما غابت أحاسيس الجماعة ذاتها بحدوث نقلة واقعية في حياتها السوسيو ــ الاقتصادية، أي وعيها بحدوث تحول في حياتها النفسية الجماعية والفردية بعد كل تلك التأثيرات التي أوقعها استبداد الحكم عليها.
لقد أنتجت استراتيجية الدولة لقراءة الماضي سياقها الخاص بها، وهو السياق الذي فرضته من جهة «خصوصية» تاريخية للتجربة، ولكن فرضته أيضاً حدود سياسية تضمنتها الاستراتيجية، وعزلت بالتالي التجربة المغربية عن العديد من المقاسات التي وضعها مركز العدالة الانتقالية مثلاً، أو أفرزتها التجارب الدولية المماثلة. ومن ثم خلقت الحالة المغربية مصطلحاتها الخاصة بها، وكان آخرها «الحفظ الإيجابي للذاكرة» الذي تداولته أخيراً ورشة نظمها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان عن حفظ الذاكرة، الشيء الذي يدعو إلى التساؤل عما إذا كان هناك حفظ إيجابي، وآخر سلبي للذاكرة؟ وما الذي يعنيه أصلاً حفظ الذاكرة في بلد لم ينفتح مجتمعه تماماً على الحقيقة الكاملة؟ ومن هو المعني هنا بهذا الحفظ: الضحية أم المجتمع، أم هما معاً؟ وهل تتوافر لدى الدولة استراتيجية فعلية لحفظ الذاكرة؟ أم يكفي ترميم المعتقلات وتحويلها إلى أماكن حافظة لبصمات الماضي ـــ أو لجزء منها ـــ لنتحدث عن صيانةٍ لذاكرة اجتماعية أليمة؟ وكيف نجعل من ترميم هذه المعتقلات علامة توازٍ بين الذاكرة والديموقراطية لتتجاوز عملية التذكر مجرد وضعية ترميم حيطان لو نطقت لحكت عن فظاعة ما شاهدت... وما هي الشروط الفعلية أو الواقعية لتجاوز تلك الفترة الأليمة؟ لنعترف أولاً بأن حفظ الذاكرة يكون عبر إحيائها. الشيء الذي يعني إثارتها على العموم والدوام. أي لا بد لإحياء الذاكرة من جمهور، وهو بالضرورة جمهور عريض يتجاوز مجرد مخاطبة المنطقة أو المدينة المعنية بجبر الضرر الجماعي. فخطاب الذاكرة يجب أن يشمل المجتمع برمته، ويخاطب أساساً الأجيال الشابة من أجل أن تسهم في بناء مفهوم «عدم تكرار الماضي الأليم». فالأمر يتعلق ببناء ذاكرة تتجه نحو المستقبل، وهذا ما لمسناه مثلاً في تجربة أفريقيا الجنوبية عندما تحولت معتقلات الذل العنصري إلى مسارح ثقافية ومتاحف موثّقة للتاريخ مفتوحة على المجتمع، وخاصة على الشباب حيث الزيارات المكثّفة لطلبة المدارس.
إن إحياء الذاكرة، كما ورد في أحد تعريفات المركز الدولي للعدالة الانتقالية، هو آلية للتذكر تنجز بأشكال رسمية تدعمها الدولة، وأخرى غير رسمية يقوم بها فاعلون محليون بطريقة مستقلة عنها. إلا أن الاتجاه الذي اختاره المجلس حامل تصورات الدولة، هو إشراك فعاليات محلية لا تتوافر لها دعامات اقتصادية حقيقية، كجمعيات الضحايا، ربما لأن المجلس اختار شركاءه الفعليين من الهيئات الوزارية كوزارة الإسكان، وأخرى دولية كالاتحاد الأوروبي. أيضاً فحفظ الذاكرة الإيجابية ينطلق بالنسبة إلى المجلس من تحويل المعتقلات السرية السابقة ـــ باستثناء معتقل تازمامارت الشهير ـــ إلى أماكن سوسيو ـــ ثقافية. ويوضح رئيس المجلس أن «الإيجابية» هنا تعني خلق نوع من المصالحة التفاعلية مع المكان والتاريخ، هذا بعدما أعلن الصيف الماضي أن صفحة الماضي في المغرب قد طويت فعلاً. تفاؤل لم تستسغه أصوات حقوقية ظلت تختلف مع معالجة الدولة للماضي، وترى أن ملف المختفين والمختطفين يعدّ بالآلاف لا العشرات كما خلصت إلى ذلك توصيات الهيئة، فأسر عديدة تنتظر جثث أبنائها الذين عُثر عليهم في مقابر جماعية بمناطق مختلفة من البلاد. وإذا أضفنا إلى هذا فشلَ كل من المجلس والهيئة من قبلِه في حل القضية ـــ اللغز لاختفاء المعارض اليساري المهدي بن بركة (وهي القضية المحور في تصورات الحقوقيين المغاربة لطي صفحة الماضي)، فمن المبكر القول إن تلك الصفحة قد طويت تماماً في المغرب، وإن الباقي هو حفظ إيجابي للذاكرة.
البناء يعني كذلك عدم تكرار الماضي من خلال مواجهته والتعرف إليه حتى لو كان أليماً، وبالتالي فتأسيسه الإيجابي يجب أن يكون على ذاكرة لا تخترقها ثقوب... وعدم ذكر أسماء الجلادين أو حضورهم الشخصي للاعتذار لضحاياهم خلال جلسات الاستماع المباشرة المنقولة عبر وسائل الإعلام مثّل ثقباً، وعدم تعاون جهات أمنية مسؤولة مع تحقيقات الهيئة مثّل ثقباً آخر، وعدم إرفاق البحث في انتهاكات الماضي بوثيقة دستورية جديدة ثقب إضافي، وتأخّر المغرب في تصديق الاتفاقية الدولية الخاصة بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري ثقب رابع... لا يمكن إذاً ليّ التاريخ إن صحّ التعبير، باتّباع تلفيق سياسي تحت قائمة طويلة من التغطيات، أبرزها الخصوصية المغربية والحفاظ على الهوية، وهي تغطيات قد لا تنجح دوماً كمبرّرات، لأن التاريخ، أليماً كان أم ساراً، يجب قراءته من منطلقات البحث عن حقيقة الوقائع كما حدثت بالفعل، لا كما تمليها الحسابات السياسية أو التخوفات من متاهات التأريخ. فهل ضيعت التجربة المغربية «للعدالة الانتقالية» فرصة الارتقاء بنفسها إلى مصافّ التجارب الدولية المقارنة، رغم اعتمادها تجربةً رائدة في الوطن العربي؟
ثم، ورغم أهمية الدخول في مسلسل بناء الذاكرة، وترسيخها كثقافة بديلة، فإن الأمر لا يستقيم مع غياب بناء من نوع آخر يهم عملية الأرشفة الموازية. لدينا اليوم وثائق مهمة من الشهادات الأليمة عن الماضي، قدّمها الضحايا أو ذووهم، وتلك التي قدمها الإعلام المكتوب، وأخرى صدرت في شكل مذكرات... يمكن اعتمادها لتكوين أرشيف وطني عن الماضي، رغم أن هذا النوع من الأرشيف يبقى مجرد حكي عن الذات المجروحة.
صوّت البرلمان على قانون لتنظيم الأرشيف، وهذا جيد. فماذا لو ضمت الأرشفة أيضاً خلاصات عن محاكمات لمسؤولين عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان، أو خلاصات توصلت إليها لجان تقصّي حقائق الماضي من خلال آليات رسمية وأخرى غير رسمية. ألا يقلص ذلك من ثقوب الذاكرة المزمع تشييدها؟

* صحافية مغربية