ناهض حتر *
وصل الأردن إلى الحافة: الرهانات القصوى على سياسات المحافظين الجدد لمرحلة جورج بوش سقطت جميعها. وبينما تتفاعل مبادرات إدارة باراك أوباما في المنطقة بدينامية متسارعة تنذر بتغيير عميق في لوحة القوى والصراعات الإقليمية، لا تزال النخبة القيادية في الأردن مشلولة عن تنظيم تصوّر وتحرك مناسبين للمرحلة الجديدة، تفزعها حكومة نتنياهو ــــ ليبرمان، ولكنها لا تقوى حتى على انتقادها بصورة علنية.
وفيما يتعمّق الانشقاق الداخلي بين الأردنيين ومواطنيهم الفلسطينيين، يجري الهرب من مواجهة الاستحقاقات الديموقراطية بالدعاية لمشروع الأقاليم الغامض الموصوف من جانب المعارضة الوطنية بأنه يهدف إلى تفكيك الوطن إلى كانتونات سيكون أحدها إطاراً للتوطين السياسي.
سلسلة من الأزمات السياسية والوطنية، الاستراتيجية، المترافقة مع أزمة اقتصادية ـــــ اجتماعية حادة تعصف بالبلاد، وتكشف معاً الأزمة الأعمق، أعني أزمة النخبة القيادية المستهلكة والعاجزة عن بلورة برنامج بديل. هنا، سأتوقف عند فوضى معالجة الأزمة الاقتصادية ـــــ الاجتماعية وفق النهج نفسه الذي تسبب في خلقها ومضاعفتها، أي النهج النيوليبرالي. وهو نهج سقط عالمياً، لكنه لا يزال الخيار المعتمد في الأردن.
في 8 نيسان / أبريل الجاري، أعلن وزير المالية، لأول مرة، عن مؤشرات «صعبة للغاية» تواجه الاقتصاد الأردني جراء الأزمة المالية ـــــ الاقتصادية العالمية: فنسبة النمو انحدرت في الربع الأخير من عام 2008 إلى حوالى 4 في المئة من 5,5 في المئة. وهناك حسب الوزير مؤشرات شؤم تتمثل في «تباطؤ حجم التسهيلات الائتمانية المقدمة من البنوك وتراجع الطلب في بعض القطاعات كالعقارات والسياحة».
وبينما حاول رئيس الوزراء في تصريحات لاحقة في اليوم التالي تكذيب إعلان وزيره، فإن مراقبين رأوا أن تصريحات الوزير لم تتحدث عن كل الحقائق أصلاً. فهو لم يتوقف عند الأهمية الاستثنائية لانفجار فقاعة النمو في قطاع العقار، وهو القطاع القيادي في الاقتصاد الأردني منذ 2003. كما تجاهل الوزير التباطؤ المتسارع في القطاعات الأخرى، والخسائر الضخمة لسوق عمّان المالي، وضياع مئات الملايين من الدنانير من صغار المدخرين الذين آمنوا بدعاية الليبراليين الجدد وشركات الاحتيال بشأن مكاسب الاستثمار في الأسواق المالية العالمية.
نسبة البطالة المعتَرف بها تزيد على 14 في المئة (بينما النسبة الحقيقية ترتفع إلى حوالى 25 في المئة) والفقر غير المعتَرف به إلا «كظاهرة» فرعية، يسحق 30 في المئة من المواطنين (حوالى مليونين، منهم مليون جائع). الإيرادات العامة تتراجع، مما عرقل تنفيذ خطة تحفيز، بينما وصل العجز المتوقع في الموازنة العامة لعام 2009 إلى سقف غير مسبوق هو 1500 مليون دولار.
لكن الآتي أصعب: فالمصدران الرئيسيان للأموال الواردة من الخارج، أي حوالات المغتربين والمساعدات، مهددان بالتراجع الحادّ بسبب الأزمة في دول الخليج وتهميش الدور الأردني.
الحلول الحكومية لا تزال تركّز على السعي إلى جذب استثمارات عن طريق تسهيلات قانونية وضريبية متنوعة. لكن هذه التسهيلات موجودة بالفعل إلى درجة أن الأردن يُعَدّ رابع دولة في العالم من حيث حرية السوق وشبكة الحوافز للمستثمرين الأجانب. وفي الحقيقة، يكاد لا يكون هناك أية قيود على الاستثمار الأجنبي في الأردن، ما أدى إلى فوضى بلا حدود. ولكن رأس المال الأجنبي الباحث عن فرص سخية غير مكلفة، حصل على ملكية المؤسسات والمشاريع في الحقول الرابحة كالمناجم والاتصالات والبنوك وشركات التأمين والأراضي القابلة للتطوير، وعلى التسهيلات الاستثنائية في التجارة والخدمات والصناعات التصديرية في المناطق المؤهلة. ويحصد الرأسماليون الأجانب، لقاء استثمارات زهيدة، ما يقدر بأربعة إلى خمسة مليارات دولار من الأرباح الصافية سنوياً. ولم يعد ثمة ما يحفزهم، وخصوصاً في ظل الأزمة العالمية، حتى إلى تدوير بعض أرباحهم محلياً، في وقت يضغط فيه المطورون العقاريون على الحكومة لتزويدهم بالسيولة مقابل إعادة بيع قسم من «أراضي ــــ هم» إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي التي تكابد الآن ضد تبديد مدخرات العاملين بأجر، لإنقاذ «مستثمرين» متعثرين أو تمويل النفقات الجارية أو المشاريع الغامضة في مجالات عقارية وخدمية.
الغريب أن الحلول المقدمة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، هي نفسها الحلول التي ولّدت الأزمة: المزيد من الخفوضات الضريبية، والمزيد من الإنفاق العام لمصلحة القطاع الخاص، والمزيد من التسهيلات المغرية للصوص البزنس، والمزيد من الفوضى المؤسسة للفساد الكبير.
يقترح مشروع قانون ضريبة الدخل الجديد خفض الضريبة على البنوك وشركات التأمين والشركات المالية من 35 في المئة إلى 25 في المئة، وتوحيد الضريبة على القطاعات الأخرى عند 12 في المئة. وهو ما يساوي بين التجارة العالية الربحية والقليلة المخاطرة، وبين الصناعة الوطنية التي تتعرض لمنافسة ساخنة في سوق مكشوفة بالكامل. وبينما يعفي المشروع مالكي الأسهم من الضريبة على الدخل، يتجه إلى تصعيدها على العاملين بأجر والفئات المتوسطة من المهنيين وأصحاب المشاريع الصغيرة. وهذه الفئات هي التي تدفع أيضاً، لكونها تمثل أغلبية المستهلكين والمواطنين، فاتورة الضريبة العامة على المبيعات والرسوم المباشرة وغير المباشرة الأخرى.
أُعلن عام 2009 عام الزراعة في البلاد. ولكن المخصصات المالية الأساسية في الخطة ستذهب لإنشاء مطار لتصدير المنتجات الزراعية في الأغوار. وهو مرفق سيخدم، بالدرجة الأولى، كبار الرأسماليين في الزراعة التصديرية. والمثير للأسئلة أن المسافة بين منطقة الإنتاج في الأغوار ومطار الملكة علياء في عمان تقطعها الشاحنات في ساعة واحدة.
جرى إنشاء المناطق الصناعية المؤهلة، بالأساس، باعتبارها إحدى ثمرات السلام مع إسرائيل، وبالشراكة معها وبرعاية الولايات المتحدة التي منحت منتجاتها حصة تصديرية، بهدف توفير فرص عمل للأردنيين. لم يستفد الاقتصاد الوطني شيئاً من هذه المناطق التي أصبحت بمثابة مناطق حرة لمستثمرين أجانب حرصوا على الإفادة من الحصة التصديرية المشار إليها، مستخدمين مدخلات مستوردة، وفيها نسبة إسرائيلية كشرط مسبق، معفاة، وعمالة أجنبية تعيش في ظروف نصف عبودية. ولتشجيع مستثمري هذه المناطق على البقاء في ظل أزمة السوق الأميركية، وهي جهة التصدير الأساسية، قرّرت الحكومة المزيد من الإعفاءات لهم. وهي تستجديهم الآن تعيين أردنيين مقابل شطب رسوم الإقامة على العمال الوافدين.
في الصيف الماضي بيعت بصورة مفاجئة أرض ميناء العقبة، واستُخدم بعض المبلغ في شراء متعجل لديون خارجية، وكانت الحجة هي بناء ميناء جديد من مستثمر على نظام «البوت» (يستأثر بعائداته للمدة الكافية لاسترداد تكاليفه وفوائده وأرباحه) وهو ما يعني تخلي الخزينة عن عائدات الميناء إلى أجل طويل.
لم يكتشف أحد السر في بيع الميناء الحالي كعقار، بينما هو، على حد تعبير خبير معروف في النقل البحري، مجهز لخدمة البلاد خمسين سنة أخرى. وبينما يستعد مشترو الميناء الحالي لاستلام عقارهم في غضون سنتين، فإن الأزمة المالية العالمية وضعت حداً لمشروع الميناء الجديد. وسيكون على الخزينة أن تتدبر، في النهاية، إعادة شراء أرض الميناء بسعر يحدده المشترون، متضمناً تكاليفهم وأرباحهم.
وفي إصرار عجيب على بيع المباني الجديدة للقيادة العامة للجيش في منطقة دابوق، لتحويلها إلى «مركز أعمال» يؤجر مكاتب راقية للشركات العالمية، تسعى الحكومة للضغط على مؤسسة الضمان الاجتماعي لتنفيذ الصفقة التي سيُستخدم عائدها لبناء قيادة جديدة في مكان آخر! وهذا طلسم غير قابل للفهم، وخصوصاً أنه ليس هناك مستأجرون الآن لمكاتب مركز الأعمال العتيد، بينما يلح آل الحريري، مالكو منطقة العبدلي (سوليدير عمان) على استلام مباني قيادة الجيش القديمة الواقعة في قلب «ممتلكاتهم» العمانية!
يقول وزير المالية إن «ضبط النفقات جزء من الحل» المقترح لمعالجة أزمة العجز في الموازنة. وهو ما يعني في الخطاب الليبرالي خفض ميزانيات الخدمات العامة وشبكة الأمان الاجتماعي. وعلى كل حال، فإنه لا قوة أو إرادة لخفض نفقات النخبة المسيطرة، وتمثّل، بالإضافة إلى خدمة المديونية العامة، عبئاً هائلاً ينوء الاقتصاد الوطني بحمله.
في التجربة الملموسة التي يعيشها المواطن الأردني، تبين أن السوق غير قادرة حتى على تصحيح نسبة التضخم في فترة الركود والانخفاض العالمي للأسعار. فالتضخم، الذي بلغ ذروته في عام 2008، بحدود 15,5 في المئة (بالنسبة إلى العام السابق) لا يزال، رغم تراجع الأسعار العالمي، يلتهم أجور الفئات الوسطى والشعبية ومدخراتهم.
الدينار الأردني مرتبط كلياً بالدولار. ولكن الدولار المتراجع المضطرب هو «قنبلة موقوتة» قد تنفجر في أية لحظة على وقع الانحدار المتسارع في النظام المالي والاقتصاد الأميركيين. وهو ما يثير فزع المراقب الحذر من انعكاس هذا الخطر على الدينار الأردني، وينذر بتضخم لا يمكن السيطرة عليه، وخسارة القيمة الفعلية للمدخرات الوطنية. ومع أن الريبة من مستقبل الدولار أصبحت قضية دولية، فإن القرار المالي الأردني لا يزال يتعلق بالدولار كعملة مرجعية.
الأزمة، كما حلولها، ولّدتها السياسات الليبرالية الجديدة نفسها. وهي تضغط على الفئات الوسطى والشعبية، المطلوب منها الآن تقديم المزيد من التضحيات المعيشية حتى الإملاق، للحفاظ على مصالح النخبة المسيطرة ومستوى حياتها، وإغواء المستثمرين الأجانب وتسهيل حجم وطرق حصولهم على أرباح مليارية يُصدّر معظمها من البلاد، بينما ينعم وكلاؤهم، التجاريون والسياسيون، بمراكمة الثروات.
فإذا نظرنا إلى تعمُّق الأزمة الاقتصادية ـــــ الاجتماعية في ضوء الأزمات السياسية والوطنية والقيادية، فسنجد أن الوضع الأردني بات يثير الأسئلة والقلق.
* كاتب وصحافي أردني