كامل جابرإن كانت تلك هي السرقات التي عرفتها مواقع صور بحسب شهادات المصور الحية، ولكن من دون أي إثبات حسّي، فكيف تكون الحال خلال الحرب الأهلية؟ ففي مطلع السبعينيات تحولت هذه المناطق مجالاً عسكرياً وأمنياً للمنظمات الفلسطينية. انصرف العديد من أبناء صور والمنطقة للبحث والتنقيب عن الآثار التي أصبح الإتجار فيها مهنة رابحة، ذاع صيتها وكثر وسطاؤها، وخصوصاً بعد اكتشاف الآثار والمغاور في مجمل القرى الواقعة شرقي مدينة صور، خلال المدّ العمراني نحو «الحوش» ومناطق برج الشمالي حيث وقعت حادثة وفاة لاثنين من المنقبين عن الآثار. فلدى عملية «نبش» مغارة مدفنية، استخدم المنقّبون مولداً كهربائياً داخل المغارة، فتسبب دخان المولد وثاني أوكسيد الكربون بموتهما.
ولكن الحادثة المؤسفة لم توقف السرقات. وبقي الوضع السيّئ على حاله حتى وقوع الجنوب اللبناني تحت قبضة الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يتاونَ عن القيام بحملات تنقيب في المواقع التي جيّش لها خبراء متخصصين. وتتحدث الكثير من المراجع «الصورية» عن أن «الإسرائيليين أقاموا طوقاً عسكرياً حول النصب الصخري (الناووس الضخم) للملك حيرام في قرية حناويه، ونبشت تحته وسرقت منه مغانم كثيرة» بحسب ما أورد المؤرخ منير بدوي في كتابه «دليل صور في القرن العشرين».
بعد الانسحاب الإسرائيلي عن صور ومنطقتها عام 1985، وبروز بعض القوى الحزبية المحلية، «فلت الحبل على غاربه» في التنقيب والبحث عن الآثار وبيعها «برعاية أمنية وعسكرية» من زعماء وقادة سياسيين محليين. وبدأت عمليات تهريب ضخمة عبر المرافئ غير الشرعية إلى خارج البلاد: فكان لبنان يصدر النواويس وتيجان الأعمدة وتماثيل رخامية ومجوهرات وجراراً فخارية. وتفشّت في تلك الفترة ظاهرة اقتناء التماثيل والجرار وعرضها في قصور الميسورين والسياسيين المشيدة حديثاً. فتلك كانت «غنائم الحرب» التي يمكن التفاخر بهاوبقي الوضع السيئ يطغى على ملف الآثار حتى دخول الجيش اللبناني إلى منطقة صور في مطلع التسعينيات، فحدّ ذلك من عملية نهب الآثار وبيعها. وتمكّنت المديرية العامة للآثار لاحقاً، من إحكام قبضتها على المواقع الأثرية في مدينة صور ومنعت العبث بمحتوياتها وسمحت فقط لورش متخصصة في التنقيب بالعمل عليها؛ وراحت تسارع إلى وضع يدها على أي موقع أثري يكتشف، طبعاً في حال التبليغ والإعلان؛ إذ لا يتوانى بعض أصحاب ورش البناء عن طمس معالم أي اكتشاف تسهيلاً لقيام مشروع استثماري والاستفادة من بيع المكتشفات لأصحاب القصور. ومع الأسف، لا تزال مواقع الجنوب حتى اليوم تتعرض لعمليات سرقة ونهب، ولا يزال «خبراء الآثار» يجوبون القرى بحثاً عن المغاور المدفنية. فعادات الحرب الأهلية لا تزال حية، يساعدها تناقل «أساطير» اغتناء تجار الآثار التي تدفع بالبعض نحو المواقع المنسية.