إبراهيم عيادالجريدة في أيامها الأولى، تتحضّر للعدد صفر. أين الأستاذ جوزف؟ «الأستاذ» جوزف في كل الأقسام وفي جميع الأماكن في الوقت نفسه: في قسم فلسطين، في الاقتصاد، في السياسة، الرياضة، التربية والجامعات، العلوم، القضايا، التصحيح والصف، التنفيذ، في المحاسبة، في الكافيتيريا، مع شباب الاتصال (الأوفيس بوي) والصيانة... أو في مكتبه بالصدفة حين يكون لديه زوار، أو حين يبدأ بكتابة «خطّه الأحمر»... إذاً لن تجده في مكان محدّد، عليك ملاحقته كي تحظى منه بلقاء.
وحين تلتقيه تشعر أن لا شيء يشغله سواك.
ــــ مرحباً. أهلاً، تفضل. تلك جملته حتى وإن كان مكتبه يعجّ بالزوار من جميع الأصناف.
وحين تخطئ بمناداته: «أستاذ جوزف»! كان يرد على الفور: «جوزف، جوزف، نعم».
لم يكن يحب هذا اللقب وربما هو لا يحب جميع الألقاب التي تعرّف عنه باستثناء اسمه الأول، لكن ربما هو الخجل ما كان يدفعني لمناداته بهذا اللقب في كل مرة، فما هو اللقب الآخر الذي من الممكن أن يكون بديلاً؟ ربما كلمة «أستاذ» دون لفظ الاسم كانت هي المنقذ لي في أحيان كثيرة.
كان يأتي بنفسه حاملاً افتتاحيته لكي أطبعها، رغم أن لديه من يقوم بذلك، ورغم أن «شباب الاتصال» كانوا يتمنون (فعلاً) أن يلبّوا أي طلب له. كان خطه بالنسبة لي جميلاً سهل القراءة على غير عادة معظم المحررين في الصحف، فلا كلمات مكتوبة ثم مشطوبة ولا خطوط ولا خرائط ولا أفكار معادة ولا تحتاج إلى شديد تأمّل كي تُفهم. كلمات نظيفة.
في أحيان نادرة، كنت أراجعه في نقطة أو حرف ناقص أو كلمة أشكلت عليّ عارضاً عليه تخميناً ما للكلمة المطلوبة، فيكون الرد: صحيح، صحيح، شكراً. أو: شو! وبعد ثوانٍ من التفكير: أكيد صحيح، خلص متل ما بتشوف صحيح! حتى كان ليجعلني أشعر بأنني قد فعلتُ شيئاً عظيماً ذا قيمة.
في البدايات، كان وجودي في الجريدة غير محدّد بوقت معيّن، فالعمل دؤوب في الأقسام جميعاً لكنه متقطع وغير متواصل بالنسبة لي، فكنت أتنقّل بين الأقسام سائلاً عمّا إذا كان ثمّة ما أستطيع مساعدتهم به، وفي نهاية المطاف، حين يكون الوقت قد تأخّر، كنت أقصد «الأستاذ» لسؤاله عمّا إذا بقي من عمل لي لهذا اليوم، كان جوابه الدائم: «بعدك هون؟ عفواً، عفواً، كان لازم نقلّك. الله معك».
بعد سنتين، أفتقد الإنسان الذي قلَّ برحيلك.
«أستاذ» جوزف الله معك.