قاسم عز الدين *يُقال، وأغلب الظن قول العارفين، إن أحد «المقتدرين» بالمال والأعمال، وعد زوجته في عيد الحب، بلقب زوجة نائب، قلادة تتشاوف بها على زوجة أخيها الأكثر «اقتداراً» بين النخبة المالية. ويُقال، إن كل من يرفل في قمباز مخطط معصفر، ملأ جرّة أحلامه بمخيال النيابة، وإن كل من مشى خطوة في «دنيا الشهرة» اللبنانية، اعتلَّت عليه صحته وتورّم رأسه، فترك كوزه وإبريقه وولّاهما ظهره ليكون نائباً.
أحدهم فتح الله عليه بقرشين «في المهجر»، عاد بهما يكمل نصف فتحه في خدمة الطائفة والوطن. وآخر رمَحه قطب عن ظهره، إذ خسر قروشه في بورصات «المهجر»، فشرّق وغرّب ويكاد يقضي بحسرته على «تمثيل الشعب». وشاب مثقف بسفاهة اللسان والبيان، دعاه وليّ النعم، اعترافاً بشهرته، إلى مائدة اعتاد أن يقيمها للخلّص من بطانته الضيّقة. وكل هذه النخبة كوم، وذاك المناضل السياسي كوم آخر. فقد راود النيابة عن نفسها، فما رقّت له في أوائل عهده بالنضال الشعبي، إنما تمكّنت منه كأن في عروقه شيئاً من دمها، وأخذته يرمي إليها على لائحة جيرانه.
وفي مرض النخبة اللبنانية المصابة بالهستيريا النيابية، يقول بعض المحابين لاحترام «الرأي والرأي الآخر»، الشهرة والطموح حق «أي كان»، في اختبار حظوظه، كأنهم لا يدرون الفرق بين الانتخابات النيابية ومسابقة انتخاب «ملك الجمال». إنما بسطاء الناس يدرون ويدركون. وعلى مثل قولهم ردّ ظرفاء بيروت عام 1960، بنشر ملصقات في الدائرة الثالثة، جمعت صور مشهوري الأحياء الشعبية المصابين بمرض «الخَبل»، حسب العرف الساري على فئة من الناس، لم يمنَّ الله عليهم بنعمة «أي كان». وكادت هذه الطرفة أن تعمَّ الدوائر الانتخابية الأخرى، بمقتضى قانون 1960، لولا أن هبَّ «قبضايات أيّ كان» للفصل القاطع بين مرض «الخبَل» المرفوق بشهادة طبيّة، وخبل «أي كان»، أخرجته النخبة بحلَّة قشيبة.
جلّ ما في الأمر أنّ إدارة البلاد وحياة العباد، شأن عام عاثت فيه النخبة اللبنانية خبلاً وفساداً. ومسؤولية الشأن العام تعوف المسؤول أحلام الشهرة وطموح الاستحواذ والنفوذ والتملّك، إنما تنضح فيه الاكتفاء باحترام الذات بذاتها دون دهون مقتنيات تستر عورتها، على نحو ما يتقن تصريف فعل «أكون»، واحتقار فعل «أملك»، سوى بهنات هيّنات. هي، إن شئت، «مرض» ملح الأرض، لا يبرأه عطر الطحالب، أو هي حرية الهواء الطلق في الأفق الرحب، تصغر فيه نرجسية الأنا المطلية بقشرة برانيّة.
وأهل بلادنا أغرتهم الدلالة على مسؤولية الشأن العام، بنفيها النقيض. قالوا «عدم التسييس» (مشتقة من السياسيين)، دلالة على أن المصالح الخاصة نقيض المصلحة العامة والشأن العام. وقالوا «غرضيَّة» دلالة على التملك واستحواذ الأشياء قيمة مضافة، ويقولون «نعرة» أو ميْل» دلالة على النفوذ والشهوة والإعجاب بين الجماعات العصبية. ولم تمسك النخبة عن عدائها لمسؤولية الشأن العام، عداء، إنما حملت الأقلام والنبابيت وسالت بأعناق الفصول أباطح الصحف، على صيغة جمع المؤنث السالم. قالت «سياسات» للمحاصصة في توزيع المغانم وفاحت رائحة أحماضها تعمي وتصمّ. وقالت «مؤسسات» لسرقة الناس. وإذلالهم بمالهم وحلالهم، كأنها حرب عوان. وتقول «فعاليات» للناجحين الطامحين «بالوصول» إلى دار وليّ النعم، «وحيثيات» وهذا علم لا يفكّ رموزه إلا الراسخون في العلم، والله أعلم.
وعلى ذكر الشيء بالشيء، أخطرنا أحد شيوخ النخبة في الحكم، أن المعركة الانتخابية مصيرية، فإما أن نكون وإمّا أن لا نكون. ولم يخطر له أن يدلّنا على صلاح أمرنا غير «ثوابت البيت السياسي العريق» على نحو ما ذقنا وعلمنا، في التعايش السلمي الحضاري الفريد، لولا تدخل «الغرباء» في شؤوننا الداخلية العائلية. ولا بأس علينا ما رزقنا بطفله يفلت علينا يعلّمنا الحكمة ومكارم الأخلاق. وشيخ آخر يشرح لنا أصول الديموقراطية ودولة القانون (بدل دولة الحقوق)، إنما في السويد. شيخة أخرى تعشق الدولة، ويدغدغ مشاعرها شعار «الحرية والسيادة والاستقلال»، علّمت ابنها التأتأة بأعصاب الناس على شاشة التلفزيون، ليحقق لها أمانيها الغالية النبيلة يوماً ما. وآخرون كثر، أقل أو أكثر مرضاً يصيحون، «وكل ديك على مزبلته صياح». بسطاء الناس «المتخلفين» يعرفون إن لم يتصالح جلالة الملك خادم الحرمين الشريفين مع فخامة الرئيس في دمشق الممانعة، وقعت الواقعة، وإن تصالحا، كما يأملون، دار تبويس اللحى. يعرفون أن النخبة المريضة تمسكهم بأعناقهم جيئة وذهاباً، إلى أقرب الأجلين، لكنهم ينتخبون ويتذابحون، يتنافسون ويتعصبون. هذه هي فطرة الإنسان في الأرض، غابة عنف عارٍ، ما لم تنظّمه نخبة الشأن العام وتهذّبه. وهي نخبة مثل حجر الفلاسفة، تعزّ وتندر في بلادنا، فإن بزغ برعم منها سرعان ما يغويه تيار الهستيريا الجارفة نحو «أحلام الشهرة» الصفراء، وما زال أكثرها لم يبرعم بعد. أحدها صديق لي برعم في مسؤولية الشأن العام بعد رياح تشرين، أتمنى ألا تغويه الهستيريا وتضرب أجراسها في عقله.
* كاتب لبناني