ماذا تقول جامعيات في جوابهن عن سؤال عن النسوية؟ قد تدهشنا الردود، ولكنها تدفع بالتأكيد إلى التفكير بما يهم الجيل الجديد، وكيف تبحث فتياته عن موقعهن في الأسرة، والمجتمع والعمل. القادري أستاذة في الجامعة اللبنانية، وهنا ننشر مداخلة قدمت في الجامعة الأميركية في بيروت ـــ برنامج أنيس المقدسي

نهوند القادري عيسى
المكان قاعة التدريس. أود أن أطرح أسئلة قد تساعدني إجاباتكم عنها في التفكير في موضوع لا أدري إن كان يعنيكم، لنرى، ماذا تعني لكم النسوية؟ وقع السؤال عليهم/ هن أشعرني أني أطرح سؤالاً لغير زمانهم، فمن القائلات إنهن لم يسمعن بذلك، إلى اللواتي أجبن متلعثمات: ربما شيء ما يخص المرأة، إلى من أجبن وباختصار مطالبة بحقوق المرأة، وإيجاد مكان لها في المجتمع، وفرض النساء أنفسهن على المجتمع، أو المطالبة بالحقوق ضد الذكورة. الشاب الوحيد الخجول القابع في الصف الخلفي أجاب إنها حركة كي تحصّل المرأة حقوقها.
من هم رموزها؟ وهنا شعرت الطالبات بالإحراج وحككن رؤؤسهن فقلن: نوال السعداوي، شهدناها على التلفزيون مع جيزال خوري، قسم آخر سمى الروائيتين إميلي نصر الله وأحلام مستغانمي، طالبة فقط استذكرت هدى شعراوي ومصطفى أمين وهي تقصد قاسم أمين.
وفي ما إذا كن يشعرن بأنهن في حاجة إلى الطرح النسوي، قلن «نحن لا نشعر بالتمييز لا في البيت ولا في الجامعة ولا حاجة لنا بالنسوية، لا سيما أن أشكالهن تنفرنا، نحن لا نريد أن نتخلى عن أنوثتنا فالمرأة تفرض نفسها من خلال أنوثتها مثلما الرجل يفرض نفسه من خلال ذكورته، وإذا كانت النساء تريد أن تحصل على حقوقها فهذا لا يعني فقدانهن لشخصيتهن، وأن يكرهن الرجال بهن وأن يتطرفن، وإلا لماذا تقتصر النسوية على المسنات. قلت لهن ماذا: لو شعرتن بالتمييز في سوق العمل؟ قلن: عندها يجب ألا تقتصر النسوية فقط على النساء.
عدت من هذا الاختبار الذي حمل لي ببساطة إشارات عديدة على مأزق الفكر النسوي العربي، ورحت أتتبع المسار التاريخي لهذا المأزق فوجدته مرتسماً منذ فترة تمثّل الحركة النسائية في أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، التي ولدت من رحم الحركات الإصلاحية التي تصدت لإشكالية الحداثة والتلقيد. إشكالية قامت على ثنائية حادة، مقرنة الشرق بالتقليد والغرب بالحداثة، مربكة نفسها بكيف يمكن التوفيق بينهما. وكي تطمئن حركة أنصار التقليد وأنصار الحداثة معاً راحت تتسامى في طروحاتها وفكرها، راسمة للمرأة صورة وكأنها قديسة خارقة القدرات، واضعة تصوراً للسياسة على أنها حبية قائمة على التسامح بعيدة عن المنازعات والتنافس والمصالح، وللعمل على أنه ثانوي بعيد عن المنفعة والمزاحمة، وللمساواة التي اعتقدن أنها يمكن أن تتحقق دون أن ينتزع أحدهما حقه من الآخر، هذا عدا عن اقتصار الحركة على فئة محدودة تدور دائرتها على نفسها، تقتصر على المدينة وتتداخل فيها العوامل الطائفية بالسياسية بالعاطفية بالاقتصادية...
السؤال هنا يطرح نفسه: هذا الإرث من التسامي ماذا حل به بعد قرن ونصف من الزمن؟ لا سيما مع العديد من المتغيرات التي طالت الفكر النسوي في الغرب، والمتغيرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية التي طالت العالم، ومن أهمها تراجع اليسار الحليف الأبرز الذي أراد رسمياً أن يكون مع النسوية وإن كان عملياً شكك بهذه الحركة ووجدها بورجوازية، قائمة على أغلبية من الجنس الأبيض، وصعود المجموعات المحافظة التي طالما وجدت في النسوية تهديداً لاستقرار العائلة ولاستقرار المجتمعات الليبرالية.
العالم راح يتخلى تدريجياً عن المواطنية بلا جنس على أنها الصورة الوحيدة الممكنة للمساواة أمام القانون، أي عن هذا التعريف الشامل واللاجنسي لحقوق المرأة والذي كان من نتائجه إبعاد المواطنات عن الفضاء العام، وأتت الحركة الكونية الجديدة لتفرض نماذج جديدة من الإنسانوية الحديثة اكتملت معها الثورة التعادلية، إذ أنكرت على الجنس الواحد ملكة التكلم باسم عموم الإنسانية، وأصبح ينظر إلى النساء على أنهن شركاء في السياسة أكثر مما ينظر إليهن على أنهن موضوع لعناية واهتمام أصحاب القرار من الرجال. وهنا أمام هذا التحول كنا ننتظر من الفكر النسوي أن يجدد نفسه ويجيب فكرياً عن التحولات الجمة وأن يضع آلية للمشاركة لتترجم عملياً على الأرض. كي لا يعاد الالتفاف على إنجازات النساء من جديد.
إذاً ربما يكون العنوان البارز لمأزق النسوية العربية عموماً، الذي يعد جزءاً من مأزق الفكر النسوي العالمي هو مأزق التمفصل، المتمثل في التأزم في الحوار والتواصل في ما يسمى بعصر الاتصال.
مثلاً على صعيد العمل، ألا يكمن المأزق النسوي في إمكان التمفصل بين وقت العمل ووقت الإعداد له، والوقت الاجتماعي والوقت الشخصي؟ على صعيد الحوار مع الذات، بين الاستغراق في الذات وتغييبها، هل رسمت لنا النسوية آلية للتصالح مع الذات؟
في ما يخص الحوار مع الرجل، لم يرسم الفكر النسوي أبعاد العلاقة مع الرجل والتمفصل ما بين المودة والمصلحة، فضاعت النساء بين أن تكون علاقة تنافس أو مبارزة أو تماه أو انسحاب، لم توضع آلية لإقناع الرجل بأن له مصلحة في المشاركة.
في الحوار مع الأجيال: مكتسبات الأجيال الجديدة من الشابات والممارسات وأساليب العيش الجديدة ربما سبقت الفكر النسوي بأشواط، ألم تنقلب المرجعيات، ألم تتبدل الأدوار؟
أما في الحوار مع المجتمع ومع الذهنية: هل حاولت النسوية الابتعاد عن تبسيط الأمور والاعتراف بنسبية الأمور؟ العلم يؤدي تلقائياً إلى العمل، العمل يؤدي تلقائياً إلى التحرر والمساواة. ماذا عن سوق العمل؟ ماذا عن العلاقة مع بيئة العمل؟ ماذا عن الأسرة؟ والعلاقات في داخلها؟ هل ضغطت النسوية لإدراج الأعباء المنزلية في حسابات الدخل القومي؟ ما هي الآليات المتوجب على النساء اعتمادها كي لا تستهلك قوة عملهن؟ وكيف لهن أن يستدرجن الرجال نحو المشاركة في أعمال المنزل؟
أتت المقاربةالجندرية لتضع المشكلة في المحددات الثقافية الاجتماعية لأدوار كل من الجنسين، أي لترمي التبعة بالكامل على الذهنية والعادات والتقاليد وتحيّد البنى الاقتصادية والسياسية، علماً بأن العادات هي بناء تاريخي يتغير ويتبدل، وأحياناً اختراع جديد يجر معه جملة عادات جديدة (حبوب منع الحمل).
ماذا عن الحوار مع الدين، مع السلطات السياسية، مع الاحزاب؟ هل تنازلت النسوية عن تساميها وقبلت بالقليل لتحصل على المزيد، أم أنها إما أدارت ظهرها لهم أو انضوت تحت جناحهم وسلمت بكل ما أتوا به؟ هناك عملية حوار مرنة وشاقة ومضنية، هل قامت بها؟ هل النسوية قادرة على استيعاب الأفواج الجديدة من النسويات المسلمات الملتزمات، أو من النساء المتحررات من كل القيود. أو من النساء اللواتي أصبحن جزءاً من تجارة لا حدود لها؟
أين النسوية في العالم من الصراعات الجديدة؟ ومن الشركات الكبرى وما يعتريها من غياب الشفافية وعدم المساءلة؟ وأين النساء من البطالة؟ ومن عالم المال والمصارف واقتصاد المعرفة؟ ومن مفاعيل الاكتشافات والاختراعات العلمية والطبية (تحديد جنس المولود)، ومن المنظومة الاستهلاكية التي أول ما تستهلك قوة عمل النساء.
أمام إشكالية العلاقة بين ما هو خارجي وما هو داخلي، لا شك بأن النسوية واقعة في مأزق: هل تحتمي بجدار أدبيات المؤتمرات الدولية وتخسر الداخل أم تحتمي بالداخل وتخسر مكاسب آتية من الخارج. أم ستتخطى رسمية هذه المؤتمرات ودبلوماسيتها وتذهب نحو مزيد من التواصل والتفاعل مع النسوية في مختلف البلدان في سياق الاختلاط المتزايد بين منظمات المجتمع المدني وتزايد المبادرات ومرور المعارف؟ وأين هي من كل هذا؟


وقائع وأفكار

يلفت تقرير «نحو تمكين النساء في الإعلام» الذي أعدته الدكتورة نهوند القادري عيسى إلى أن «النساء نادراً ما يكن جزءاً من محتويات الإعلام، لأن التعريف الاجتماعي للإعلام المهم هو الإعلام الذي يطال الشخص أو الحدث المهم، بمعنى آخر كل ما له صلة بالسلطة، وقليلات من النساء اللواتي لديهن مراكز مسيطر في المجتمع البطريركي»، كما يلحظ التقرير «تركيز الأخبار عموماً على حاجات الرجال في الإعلام وتجاهل الأحداث اليومية الأكثر ألفة مع النساء أو دفعها إلى الخلف أو إلى صفحات المرأة». ويلفت التقرير إلى «مقاربة الإعلام لحركات تحرر النساء عادة من منظور ذكوري، غالباً ما يبخس نشاط النساء للاعتراف بحقوقهن، وكثيراً ما يتم التشديد على نماذج متعثرة من محاولات التحرر».


نقاش

الحبل المنقطع


يلفتنا النص المنشور في هذه الصفحة، ويدفعنا إلى طرح السؤال عن «الحبل الذي انقطع» إذا صح التعبير، لماذا لم ترث بنات الجيل الجديد أسئلة وهموماً طرحتها المناضلات النسويات من الأجيال السابقة؟ الوراثة التي نتحدث عنها في هذا الإطار لا تعني التسليم بكل الطروحات التي حملتها أجيال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، بل نحن نتحدث عن ضرورة التعرف إلى هذا الإرث وطرح الأسئلة حوله، ونقده وتبنّي ما يريد الجيل الجديد أن يتبنّاه.
المشكلة أن الصورة التي نقلت للشابات هي صورة مشوّهة، المناضلة النسوية امرأة بشعة، «مسترجلة» ضد الأنوثة، عجوز بشعة.
الأسوأ أن هذا الفهم الخاطئ مقرون بتحديدات جديدة للأنوثة والجمال والأناقة، وهي تحديدات تنتمي إلى أصولية يفرضها السوق وتفرضها الميديا أيضاً.