غسان سعود
لا مطبّات ولا عوارض حديدية قبالة منزل رئيس الحكومة الأسبق سليم الحص. المنزل نفسه يدفع بزائره إلى التعجّب. هل يعقل أن يعيش من ترأس الحكومة ثمانية أعوام، ومثّل العاصمة في المجلس النيابي ثمانية أخرى، في بناية عمرها من عمر الاستقلال، لم يمنّ عليها أحد بشيء اسمه ترميم؟ هذا أمر غريب في عرف السياسيين اللبنانيّين. الأمر الغريب الآخر أنّك تدخل مكتبه من دون تفتيش أو تدقيق في الهوية. هناك، تجد أشخاصاً يبدو عليهم القلق للوهلة الأولى. لكن ما إن تسألهم عن حال الرئيس حتى تتغير ملامحهم، ويصبح مستحيلاً إسكاتهم، وخصوصاً أنّ لكل منهم ما يرويه باعتزاز عن «رئيس الكرامة».
تدخل غرفة سليم الحص، وتفاصيل كثيرة تلفتك هناك. كتب وصحف وبعض الدروع وعلم فلسطين، وصورة سيدة شابة تملأ ابتسامتها وإشراق عينيها المكان.
هنا تكتشف أن سليم الحص لا يشبه بالفعل السياسيين الآخرين. تراه يرتاح في مقعده ويتذكّر برومانسية نادرة ليلى فرعون. 18 عاماً مرت على وفاتها، وهي لا تزال الحديث الأجمل عند رجل الثمانين عاماً. يتذكّر الحص جيداً بداية علاقتهما حين كانت ليلى تطبع الرسائل التي يحررها في غرفة التجارة والصناعة حيث كان يعمل، وسرعان ما تزوجا عام 1957 ورزقا بابنة وحيدة هي وداد.
يحكي الحصّ الكثير عن زوجته، لكن أجمل كلامه يبقى آخر كلام ليلى. سألها وهي على فراش الموت إن كانت حقاً مقتنعة بإعلان إسلامها، فأجابت: «أريد أن أُدفَن معك في جدث واحد». يقول الرئيس: «أعيش على ذكراها». ومن صورة الزوجة الراحلة إلى مسجّلة صغيرة تحتلّ موقعاً مميزاً في الغرفة. يلتقط الحص السؤال في العيون، ويبادر إلى القول: «عند تخرّجي من الجامعة، أهدتني ابنة خالتي أول راديو يدخل منزلي. كنتُ أهوى الموسيقى وأستمع إليها من راديوات الجيران. في الطفولة كان محمد عبد الوهاب يستأثر بالقلب كلّه. لاحقاً، ظهرت فيروز فحلّت محله وصرنا أصدقاء. اليوم أنوّع بين فيروز وعبد الوهاب والموسيقى الكلاسيكيّة، وخصوصاً بيتهوفن وتشايكوفسكي. أسمع الموسيقى طوال النهار، حتى خلال العمل. كنت أحلم بإتقان العزف على إحدى الآلات لكن الظروف لم تسمح».
هذه الظروف تزيد من سحر الرجل. هو الابن الأصغر بين ثلاث بنات وصبيين في عائلة الصيدلي أحمد الحص الذي توفي قبل أن يبلغ صغيره السبعة أشهر. ترك أحمد للعائلة مصدر رزق وحيداً هو مبنى من طابقين في محلّة زقاق البلاط يضم بيتين وثلاثة محال تجارية، كلّها مؤجّرة. توفيراً للمال، أجّرت العائلة المنزل الذي تسكنه ونزحت إلى منزل تملكه الجدّة. وللطفولة الصعبة ذكرياتها: «كنت أذهب إلى مدرسة المقاصد مع شقيقي أنيس في سيّارة صغيرة يتكدّس داخلها قرابة عشرة أطفال. كانت والدتي تعطيني صباحاً نصف قرش لأشتري بسكويتاً وراحة الحلقوم. سمعتها مرّة تقول لخالتي إنّها لم تعد تملك قرشاً واحداً، فمددت يدي إلى جيبي معيداً النصف قرش الذي أخذته». ومن الطفولة أيضاً، حمل عادة الامتناع عن أكل اللحوم، إثر رؤيته ذبح خروف كان يلاعبه.
في المقاصد، لم يكن الحص كثير الاجتهاد. لكن بعد انتقاله إلى مدرسة الـ«آي سي» في رأس بيروت، ضاعف جهده بعدما تكفلت بنفقة تعليمه ابنة خالته صفية الحص، وقد أضحت لاحقاً زوجة عثمان الدّنا نائب ووزير سابق وأحد الوجوه البيروتيّة المعروفة. هكذا، اختصر سنتين ثانويتين بسنة واحدة. مع انتقاله إلى «الجامعة الأميركيّة في بيروت» لدراسة العلوم التجارية بدل الأدب العربي نتيجة ضغط شقيقاته، «لأن الأدب لا يطعم خبزاً». هكذا، وجد عملاً في الجامعة وفّر له بعض المال حتى بعد تخرّجه. كان قد استهل حضوره في الأميركيّة بإعداد مسرحية عن الحياة الريفيّة في لبنان بعنوان «مطحنة حامِد» فحصدت جائزة قدرها 45 ليرة، وحلّت ثانية بعد مسرحية الكاتب عمر أبو النصر.
فور حصوله على الإجازة، انتقل إلى شركة «التابلاين»، حيث عمل محاسباً، ثمّ إلى غرفة التجارة والصناعة حيث عمل محرّر رسائل. في تلك المرحلة، فاز بجائزة المُتخرّج ذي المعدّل الأرفع في مواد المحاسبة وتدقيق الحسابات في «الجامعة الأميركية» وقيمتها 300 ليرة. «أخذتُ المبلغ وهرعت لشراء غسّالة كهربائية لوالدتي التي كانت تغسل بيديها». بعد سنة في غرفة التجارة، عرض عليه الشيخ سعيد حمادة التدريس في الأميركية، ثم وفّر له فرصة الحصول على دكتوراه عبر مُساعدة من «مؤسسة روكفلر». «ضمنت لي تلك المنحة اللازم لنفقات سفري مع زوجتي وطفلتي، وإقامتنا في الولايات المتحدة والأقساط الجامعية». كان موضوع أطروحته «الدور الذي يمكن أن يقوم به مصرف مركزي في لبنان»، وذلك قبل إنشاء تلك المؤسسة طبعاً.
بعد عودته من الولايات المتحدة إلى «الجامعة الأميركيّة» ببضعة أشهر، سافر إلى الكويت. هناك تولى مهمّة المستشار المالي لصندوق التنمية. مكّنت وظيفة الكويت من شراء عقار في منطقة الدوحة، ثمّ استدان لاحقاً مبلغاً مَكنّه من بناء منزله عليه، وذلك إثرَ تعيينه رئيساً للجنة الرقابة على المصارف. بعد معالجته للزلزال الذي تسببت به أزمة بنك «أنترا»، عُيّن رئيساً للجنة الرقابة على المصارف التي استحدثت. هناك، توطدت علاقته بالرئيس إلياس سركيس، حاكم مصرف لبنان يومذاك.
يتذكّر متأثراً اغتيال صديقه خليل سالم الذي وجدت جثّته في صندوق سيارة مهجورة بعد انتخاب سركيس رئيساً للجمهوريّة. ويتذكر بوضوح التفات سركيس إليه يوماً وقوله: «أريد أن أُكلّفك تأليف حكومة تكنوقراط». تماماً كما يذكر اتصاله بمفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، طالباً منه التوسط مع السفارة الأميركية لتأمين إنزاله من الدوحة إلى العاصمة ليقيم مع أهل بيروت الصامدين. وفي السياق السياسي، يذكر إصراره بعد اغتيال الرئيس رشيد كرامي أن يسمّى رئيس حكومة بالوكالة رغم أنّ «لا وكالة عن ميت». ورث عن كرامي «القطيعة»: لم يلتقِ رئيس الجمهورية ولم يعقد مجلس الوزراء أي اجتماع.
بعد الطائف، انشغل الحص بالحياة النيابية، قبل أن يعود عام 1998 رئيساً لمجلس الوزراء. بعد خسارته المدويّة في الانتخابات النيابيّة عام 2000، أعلن «الخروج من حيّز العمل السياسي إلى حيّز العمل الوطني».
وبعد؟ لا يمكنك الخروج من المكتب من دون بعض الكلام عن مكافحة الفساد «المستشري في كل العالم». هنا، يستعيد الحص أنفاساً شبابية ويبدو مصرّاً على الإيمان بعالم أفضل. عالم تكون فيه فلسطين حرّة. الحديث مع الحص، نصفه أو ثلثاه، مخصص لفلسطين. الرئيس لم ينتمِ إلى حزب، لكنّه انتمى إلى قضية: «على قضية فلسطين يتوقف مصير العرب جميعاً». على الباب، يقول الحص مودعاً: «المهم أنّ ضميري مرتاح، هذه نعمة كبيرة، وخز الضمير أقسى عذاب». تكفي بضع دقائق مع الرئيس سليم الحص، ليشعر الضيف بأنّه يقف أمام واحد من قلّة، طبعت السياسة بلون يخالف الألوان المعتمدة لدى الطبقة السياسيّة عموماً.


5 تواريخ

1929
الولادة في حي زقاق البلاط ـــــ بيروت

1952
تخرّج من دائرة العلوم التجارية في «الجامعة الأميركية». وبعدها بتسعة أعوام، نال الدكتوراه في إدارة الأعمال

1976
عُيّن أوّل مرة رئيساً لمجلس الوزراء وتكرر التعيين حتى استقالته عام 1980

2000
كان أوّل رئيس حكومة يخسر انتخابات نيابيّة يشرف على إجرائها

2009
يواظب على «مكافحة الفساد» وإصدار «المواقف التوجيهيّة»