يسأل الواحد عن هؤلاء الذين يتأبّطون الملفّات ويأتون إلى جلسات الحوار البائسة، من منهم ذهب إلى الجنوب؟ من منهم وطئ أرض المخيّمات الفلسطينيّة؟ من منهم سأل أهالي الجنوب عن معاناتهم عبر العقود؟ الجواب واضح في سطور مشروع بطرس حرب الذي يستحق المصير نفسه لاتفاق 17 أيار
أسعد أبو خليل*
من العادات السيّئة ـــــ وهي كثيرة ـــــ لسيّاسيي لبنان أنهم يبالغون في تقدير أهميّة وطنهم الصغير وفي أهميّتهم هم أيضاً. كيف تفسّر أن وليد جنبلاط، مثلاً، يطيّر برقيّة طويلة جداً إلى باراك أوباما، ويُضمّنها توجيهاتِه للإدارة الجديدة؟ هل تظن أن زعيم 5% من سكان قبرص أو واحداً من زعماء قبائل الصومال يطيّر برقيّات سياسيّة طويلة إلى باراك أوباما؟ هل يظن ساسة لبنان أن زعماء الدول يعلمون بأمرهم؟ صحيح أن بوش استقبل عدداً من زعماء لبنان، وكاد أن يستقبل رؤساء البلديّات في المتن، لكن لا ضرورة لأن يجنحوا بخيالهم. لا يعلمون أن هذا سائد في السياسة الخارجيّة الأميركيّة عندما تلجأ إدارة إلى استغلال أحداث في بلد معيّن لمصلحتها هي، ولمصلحة إسرائيل، وهي عليا دائماً في هذه البلاد. نسوا أن رونالد ريغان كان يستقبل دوريّاً زعماء قبائل وعصابات من أفغانستان عندما كان يستعمل حلبة أفغانستان لمحاربة السوفيات، مستفيداً من عطاءات سعوديّة سخيّة، أكبر بكثير من إعلانات الدعم السعودي لشعب غزة، التي قد لا تصل أبداً. من يذكر كيف قطع الحكم السعودي الدعم عن ياسر عرفات (الذي كان مطيعاً لهم عبر السنين) بعد حرب العراق الأولى، وكيف كان عرفات متحسّراً يعدّد حجم المساعدة السعودية للجهاد الأفغاني؟
لكن المبالغة في الأحجام والأدوار تدفع بالشيخ بطرس حرب لأن يتنطّح لتقديم مشروع استراتيجيا دفاعيّة عن لبنان. والأمر يمكن أن يكون هزليّاً لو أن لبنان لم يكن مسخ وطن يأخذه بعض قاطنيه على محمل الجدّ. أي جدّ لا يستحقّه من بنيه. والشيخ بطرس نموذج غير مختلف عن نماذج الساسة في لبنان. وهو من فئة من سلالات العائلات السياسيّة الذين يتصنّعون التعفّف عند ذكر الميليشيات، ولا يتورّعون عن شتم الميليشيات وساعتها مع أنهم حاولوا إنشاء ميليشيات خاصّة بهم، لكن ميليشياتهم فشلت ولم تنجح في منافسة ميليشيات الحقبة. علي صبري حمادة أنشأ «نسور البقاع»، وورثة كاظم الخليل في صور انتظروا وصول قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 لينشئوا، بمساعدة إسرائيل، ميليشيا ما لبثت أن تهاوت تحت ضربات المقاومين، ووزير «الثقافة» تمّام سلام كان القائد العام لميليشيا «روّاد الإصلاح» (كان أهل بيروت الظرفاء يسمّونها «روّاد الفضاء»)، وساعد رفعت الأسد (العائد؟) كامل الأسعد الذي أنشأ ميليشيا خاصّة بحزبه («الديموقراطي» و«الاشتراكي») لكن أهل الجنوب والضاحية كانوا منخرطين في تنظيمات اليسار والثورة اللبنانيّة والفلسطينيّة، وهناك غيرهم. أما صاحبكم الشيخ بطرس (الذي دبّج خطباً بعثيّة لالياس الهراوي مع أن مهنة الدفاع عن «بنك المدينة» كانت ولا شك تأخذ حيّزاً من وقته الثمين)، فقد أنشأ ميليشيا «لواء تنّورين». والشيخ بطرس لا يتحدّث اليوم عن «لواء تنّورين» مع أنه كان يمكن أن يدرجه في سيرته الذاتية ليعزّز أهليّة اختصاصه في الإدلاء بدلوه في موضوع الاستراتيجيا الدفاعيّة. ولا تتطرّق المقالات والمقابلات عن بطرس إلى «لواء تنّورين» (ما خلا الفصل عنه في كتاب حازم صاغيّة، «موارنة من لبنان»). لكن ما علينا. فالشيخ بطرس يزعم أنه «ضبضب» الميليشيا (أو «اللواء») عند انتخاب الياس سركيس، وخصوصاً أن الأخير وزّره وطلع علينا الوزير الشاب آنذاك بفكرة التلويح بالعلم اللبناني مرّة في السنة. (وأذكر أننا في المدارس والجامعات آنذاك كنا نكيل له وابلاً من الشتائم في يوم العلم، وخصوصاً أن الكثير منا كان مشغولاً بالتلويح بعلم أجمل بكثير من علم لبنان). لكن يمكن أن يكون الشيخ بطرس قد استعان بتاريخه الميليشياوي ليُفتي في الاستراتيجيا الدفاعيّة. لم لا؟ الكلّ يفتي في الموضوع اليوم وقد يأتي يوم يدعو فيه فريق آل الحريري وآل سعود في لبنان أنطوان لحد للإدلاء بدلوه في الموضوع.
يبدأ الشيخ بطرس مشروعه بديباجة لاهوتيّة. فهو يُشرّح ويُصنّف الشهادة والشهداء ويصل إلى خلاصة مفادها أن صفة الشهادة تسقط تلقائيّاً عمن يدافع عن وطنه في حالة غياب الاتفاق الداخلي والوحدة. لا ندري إذا كان الشيخ قد استعان بالتاريخ هنا. فليس هناك من حركة تحرّرية أو حالة مقاومة في العالم وفي التاريخ تمتّعت بالإجماع الوطني وبـ«كنف الدولة»، وفق تسمية نسيب لحّود. ولو أن الشعب الفرنسي انتظر تحقيق الإجماع هل كانت هناك مقاومة فرنسية؟ عادة، تبدأ المقاومة ضد المُحتل وضد من يعارض المقاومة في بلد ما، والتاريخ زاخر بتجارب، من الجزائر إلى جنوب أفريقيا إلى فيتنام. لكن شرط تحقيق الإجماع شرط تعجيزي يهدف إلى وأد المقاومة، أو وضعها بأمرة نايلة معوّض وإيلي ماروني، والأخير نموذج حضاري لدولة حضاريّة.
ويعود الشيخ بطرس ليفتي بضرورة إخضاع المقاومة لسلطة الدولة، مع أن المقاومة لا تنشأ إلا بسبب تخاذل الدولة أو ضعفها أو تواطئها أو خيانتها. وينسى فريق آل الحريري وآل سعود أنه كان هو في الحكم عندما اعتدت إسرائيل على لبنان عام 2006، وكان متاحاً له أن يضع نظريّاته في المقاومة موضع التنفيذ والتطبيق المُحتذى. وهل كانت المقاومة ستقوم بالواجب (وأكثر) عام 2006 لو أن قوات الدولة من درك وشرطة وقوى أمن وجيش قامت بواجب الدفاع عن لبنان في وجه إسرائيل؟ لكن فريق 14 آذار يريد الشيء وعكسه: يريد أن يتقاعس عن مهمة الدفاع عن الوطن في الوقت الذي يطالب فيه بنزع السلاح من الفريق الذي تطوّع (غير مشكور) في مهمة الدفاع عن الوطن. ويرى الشيخ بطرس في مشروعه أن القول إن الجيش ضعيف يهدف إلى إضعاف الجيش. لا ندري ما يعني الشيخ بطرس بكلامه المذكور. هل هو يدخل في شق الحرب النفسيّة؟ هل يريدنا أن نخدع العدو بادعائنا أن للجيش اللبناني أساطيل وغوّاصات حتى نُظهر الجيش قويّاً للخدعة؟ أم هو يشير إلى تلك الطائرات العشر ـــــ لا غير ـــــ التي جلبها (أو وعد أن يجلبها لنا «يوماً ما») وزير الدفاع عن لبنان في وجه... عَبَدَة الشيطان؟
والطريف في مشروع حكيم تنّورين أنه يضمن عدم حصول أية مقاومة ضد أي احتلال في مستقبل لبنان لأنه يُخضِعه لمعيار لم يتوافر في أي بلد من العالم. فالشيخ بطرس يمنع منعاً باتاً حصول أية مقاومة من جانب أيّ كان في لبنان لأن هذا يُعتبر تفرّداً من فئة خارجة على الدولة. ولو طُبقت معايير حرب، الذي اجترح فكرة التلويح بالعلم اللبناني في مدارس لبنان، في فرنسا مثلاً، لسيق زعماء مقاومة الاحتلال إلى السجون لأنهم تفرّدوا بقرار ليس من حقّهم. كيف يمكن المقاومة الفرنسية أن تخرج على «كنف» الدولة الفرنسية، أو على كنف بيار لافال؟ لكن الشيخ بطرس يُلبنِن الموضوع إذ إنه يحشر فيه «التوازنات» الطائفيّة والمذهبيّة. ويقول في هذا الصدد إن المقاومة في لبنان لا تستقيم إلا إذا تمثلّت فيها وبصورة عادلة ـــــ على طريقة المادة 95 من الدستور البائد ـــــ كل الطوائف والمذاهب. وماذا لو قامت مقاومة في لبنان، مثلاً، دون تمثيل عادل للأقليّات؟ ألا يُعتبر هذا إجحافاً بحق طائفة كريمة؟ لكن الشيخ بطرس يعود ليناقض ما قاله هنا، إذ إنه يستدرك قائلاً إن إشراك كل الطوائف والمذاهب في المقاومة هو أيضاً خطر مستطير لا طاقة للبنان على تحمّله. ويقول بطرس إن تعميم المقاومة يؤدّي إلى الاقتتال الداخلي. ترغب أن تسأل الشيخ بطرس هنا: ماذا تريد إذاً يا شيخ؟ تعترض إذا كانت المقاومة لا تمثّل كل الطوائف والمذاهب، ثم تعود لتعترض على نشر المقاومة بين كل المذاهب والطوائف؟ هل هذا إلا اعتراف بالإصرار على وضع شروط تعجيزيّة أمام المقاومة من أجل القضاء عليها بالتمام والكمال في سبيل تسديد أثمان الحلف مع ديفيد ولش وإليوت أبرامز، أم أن هذا التطمين لإسرائيل هو بريء؟
ويؤكّد الشيخ بطرس، ببراءة مرّة أخرى، أن تعميم المقاومة يؤدّي إلى نشر الإرهاب. لكن هذه المعادلة يحتاج قائد لواء تنّورين إلى شرح لها لأنها قد تكون على مستوى عال من التقنيّة التي تفوت العقل غير العسكري. ثم هل يرمي الشيخ بطرس وفريق آل الحريري من ورائه إلى نفي تهمة الإرهاب عن إسرائيل؟ ونلاحظ أن فريقي آل الحريري وآل سعود تماهيا مع الحليف الأميركي إلى درجة تدفعهما إلى تجنّب وصف جرائم إسرائيل بـ«الإرهاب» وإسباغ الصفة حصريّاً على منظمّات إسلاميّة، حتى لو كانت مستفيدة في الماضي أو في الحاضر من أموال آل الحريري وآل سعود. ولا يكتفي الشيخ بطرس بالاستعانة بقوات الجيش اللبناني للتصدّي لعدوان إسرائيل على لبنان، مع أن هذا الجيش تجنّب كل المواجهات العربيّة مع إسرائيل في الماضي ـــــ خلافاً لميثاق دفاعي مُوقّع مع الجامعة العربيّة ـــــ وهل يستعين أيضاً بقوى الأمن الداخلي (التي تحوّلت بعد إطلالة آل الحريري على الحياة السياسيّة في لبنان إلى ميليشيا مذهبيّة ـــــ عائليّة تستفيد من تكنولوجيا المساعدات الأميركيّة الموثوقة والبريئة في آن واحد) والتي مثّلت في تجربة ثكنة مرجعيون البديل الحقيقي من المقاومة في نظر معسكر الاعتدال العربي؟
ثم يعود الشيخ بطرس إلى تقديم مطالعة تاريخيّة عن المقاومات عبر التاريخ. ويُفتي (أيُفتى والشيخ نادر الحريري في المدينة؟) بأن المقاومات تقوم عندما تضمحلّ الدولة، والدولة هي حبيبة الشيخ بطرس. لكنه يعزو انكفاء الدولة عند قيام المقاومة عام 1982 إلى سيطرة الوصاية السورية (التي كان متحالفاً هو معها لعقود)، مع أن الاحتلال الإسرائيلي هو الذي كان يسيطر على الدولة آنذاك عندما فُرض اتفاق 17 أيار الذي نظّر له الشيخ بطرس يومها. أما عن اليوم، فيقول الشيخ بطرس إنه «لم يبق من الأراضي اللبنانيّة تحت الاحتلال إلا مزارع شبعا وتلال كفرشوبا...»، ويضيف أن هوية هذه الأراضي لم تُحسم في نظر القانون الدولي. أولاً، من الملاحظ تلك الصياغة اللافتة في الجملة عندما يقول: «لم يبقَ...» أي أنه يريد أن يقول إن مسألة قرية أو قريتيْن ليست بتلك الأهميّة، وإن التنازل عن بعض من الجنوب مقبول إذا كان لبنان سيكسب اتفاق 17 أيار جديداً. ثانياً، لا يتحدّث الشيخ حرب عن قرية الغجر وعن أراضٍ أخرى تحتلّها إسرائيل. ثالثاً، إن إقحام القانون الدولي على يد محام معروف (ويشهد له «بنك المدينة» بحسن الدفاع والمرافعة) يدخل في باب المراوغة. يعلم الشيخ بطرس ـــــ أو يجب أن يعلم ـــــ أن القانون الدولي ومنظمة الأمم المتّحدة لا يرسمان الحدود بين الدول، وأن الأمر يدخل في إطار الاتفاقات الثنائية. الأمم المتحدة تأخذ علماً فقط برسم الحدود بين الدول، مع أن مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، تيري رود لارسن، حاول أن يخدم إسرائيل عبر الزعم بأن الأمم المتحدة هي التي تحدّد رسم الحدود بين لبنان وفلسطين المُحتلّة. وحاول لارسن أن يستعين بفريق آل الحريري في لبنان لخداع اللبنانيّين. كاد لارسن أن يُقنع الشعب اللبناني ليمنع لبنان من معارضة مشيئة إسرائيل.
ويعود الشيخ بطرس للثناء على القرار 1701 الذي خدم في نظره سيادة لبنان، مع أنه يستدرك قائلاً «باستثناء حركة الطيران الاستطلاعي». إن هذه الجملة بحدّ ذاتها تكفي لدحض كل الأسانيد ـــــ إذا كان هناك من أسانيد ـــــ في ما يعرض من «استراتيجيا» دفاعية. هل يريد الشيخ بطرس أن يقول إن الخرق الإسرائيلي الدوري ـــــ أو شبه اليومي ـــــ لأجواء لبنان هو مسألة ثانوية؟ هل يعلم أن خرق الأجواء يُعدّ مثل خرق الأراضي، وحجة مقبولة في القانون الدولي للدفاع عن النفس؟ هل يحمل مشروع الشيخ بطرس بنداً لشرعنة الخرق الإسرائيلي للأجواء اللبنانيّة؟
ويحاول الشيخ بطرس أن يُبطل عمل المقاومة عبر التذكير بتغيّر الأوضاع في لبنان، ويضيف أن الدولة، أي حبيبته في زيّها الحريري، عادت إلى ممارسة دورها وأنها أصبحت «دولة مقاومة». يحتاج الشيخ بطرس هنا إلى ملحق خاص لشرح ما يعنيه. هل يعني أن إضافة إيلي ماروني إلى الحكومة حوّلت الدولة إلى دولة مقاومة؟ هل يستعمل مصطلح المقاومة بالسياق ذاته الذي يرد في أدبيّات ميليشيا بشير الجميّل خلال سنوات الحرب؟ وأين يتجلّى، يا شيخ بطرس ويا محسنين ومحسنات، «تحوّل» الدولة إلى دولة مقاومة؟ إلا إذا كان الشيخ بطرس يستعمل كلمة «تحوّل» في سياق تلك القصّة لكافكا عندما يستفيق الرجل ليجد أنه تحوّل إلى صرصار عملاق؟ ولا ندري إذا كان نائب تنورين يمزح عندما دعا من يريد «متابعة النضال» ضد العدو الإسرائيلي إلى الالتحاق بالجيش اللبناني، وكأن الجيش اللبناني ما توقّف منذ 1948 عن نضال لا يلين ضد إسرائيل، مع أن فؤاد شهاب كان واضحاً في الإصرار على «تحييد» الجيش إزاء الصراع مع إسرائيل منذ إنشاء الكيان الغاصب. صحيح أن الجيش ساعد المقاومة في التسعينيات وما بعد، لكن ذلك كان في السرّ، أي أن دعوة الشيخ بطرس يجب أن تأتي بصورة معاكسة: من يرد من أفراد الجيش اللبناني أن يناضل ضد إسرائيل فعليه الانضواء في صفوف المقاومة، لا العكس.
ومن الطريف أن يشدّد الشيخ بطرس على إبعاد لبنان عن «الصراعات الإقليميّة»، فيما ينتمي حضرته إلى فريق صريح وواضح في تحالفه مع النظاميْن المصري والسعودي، بالإضافة إلى محور بوش على امتداد أربع سنوات، إلا إذا كان يرى أن النظام الوهابي هو فوق الصراعات والمحاور. وهل كانت دعوة وليد جنبلاط، وهو قطب في فريق الشيخ بطرس، إلى قلب النظام في سوريا وإلى اغتيال رئيسه وإلى إرسال سيّارات مفخّخة إلى دمشق جزءاً من التزام الشيخ بطرس بإبعاد لبنان عن سياسة المحاور؟
ولكن لا يمكن أن نتهم الشيخ بطرس بعدم تقديم بدائل من المقاومة. فقد أنهى مشروعه ـــــ أو مشروع «لواء تنّورين» ـــــ بالدعوة للجوء إلى «الوسائل الدبلوماسيّة» لتحرير الأراضي اللبنانيّة. لكن الشيخ بطرس لا يوضّح لنا سبب عدم نجاح الوسائل الدبلوماسيّة لحكومة السنيورة، والأخير نموذج ساطع للنضال الحضاري الذي ينتهج معسكر الاعتدال الوهابي ـــــ السلفي. وماذا يمنع حكومة الأكثريّة من ممارسة النضال الدبلوماسي من أجل دحض فكرة المقاومة المسلحّة التي تزعجهم بقدر ما تزعج العدو الإسرائيلي؟ ولا ينسى الشيخ بطرس أن يضيف، وإن عرَضاً، أنه يمكن «تعزيز الجيش اللبناني بكل الإمكانات المُتاحة». الإمكانات المُتاحة؟ متاحة ممّن؟ هذا لا يمكن أن يعني إلا مدّ الجيش اللبناني بعربات «الهامفي» المُستعملة، لأن الجيش لا «يُتاح» له إلا الدفاع عن أرض لبنان بعربات «الهامفي»، بالإضافة إلى طائرتيْ «الهوكر هنتر» بانتظار وصول الطائرات الروسيّة العشر التي يمكن أن يستعملها الياس المرّ لقصف مواقع عَبَدة الشيطان في لبنان وقواعدهم.
لكن الشيخ بطرس يرتقي إلى مرتبة رفيعة في الهزل عندما يذكر عبارة: «اتخاذ التدابير الأمنيّة اللازمة لحماية كوادر حزب الله وقادته». وهي مماثلة ـــــ هزلاً ـــــ لإشارته إلى «تعزيز الضمانات الدوليّة لحماية لبنان»، لكن العبارة الأخيرة تنسف مشروع الشيخ بطرس عن بكرة أبيه لأن الضمانات الدوليّة تكفي، في نظر الشيخ بطرس، لحماية لبنان، مثلما حمى القرار 425 وفق رؤية غسان تويني لبنان من عدوان إسرائيل، وحرّر أرضه. ولكن هل للشيخ بطرس أن يشرح لكوادر حزب الله وقادته عن كيفية توفير «التدابير الأمنيّة اللازمة»؟ لا يجوز المزاح هنا لأن الشيخ بطرس ربما يتحدّث عن توفير عناصر من جهاز أمن الدولة لحماية حزب الله، مع أن عنصر جهاز أمن الدولة المُفرز لحماية بيار الجميّل فرّ مذعوراً ومولولاً عندما ظهر مسلّحون أمام سيّارة الوزير. وهل سمع الوزير عن الضمانات الدوليّة التي حصل عليها ياسر عرفات لحماية أحمد سعدات؟
طبعاً، ليست عمليّة مناقشة الاستراتيجيا الدفاعيّة عمليّة جديّة. الطرفان في الحوار يناوران ويراوغان. هل يظن فريق 14 آذار أن قادة حزب الله وكوادره سيركنون إلى تطمينات صديقهم «جيف» لحمايتهم وحماية عوائلهم؟ وهل يمكن أن يكون ممثلو حزب الله في هيئات الحوار ولجانه وسيركه جادّين في قبولهم بإسهامات أمين الجميّل وبطرس حرب وسمير جعجع (أو أنطوان لحد) لحماية الجنوب من عدوان إسرائيل؟
لا يمكن تحميل الشيخ بطرس أكثر مما يتحمّل، لكن فرضيّة فريقه في موضوع حماية لبنان هي فرضية صهيونيّة مفادها أن إسرائيل لا تكنّ للبنان إلا كل المحبة والعناية، وأن اتفاق الهدنة كان موضع احترام إسرائيل لولا خروق المقاومة الفلسطينيّة والمقاومة اللبنانيّة بعدها. ينسى هؤلاء ـــــ لابتعادهم الجغرافي والعاطفي عن أرض الجنوب ـــــ أن مجمل اعتداءات إسرائيل على لبنان بين سنوات 1949 و1964 بلغت 140 اعتداءً على قرى الجنوب ومدنه، بما فيها خطف طائرات وقتل مدنيّين. وزادت اعتداءات إسرائيل بين سنوات 1968 و1974 إلى ثلاثة آلاف اعتداء، وأدت إلى مقتل 880 مدنياً (ومدنيّة) من اللبنانيّين والفلسطينيّين، لكن «لواء تنّورين» لم يكن قد وُلد بعد. لم يقرأ بطرس حرب ورفاقه في «لواء تنّورين» ولواء قريطم كتاب بني موريس عن حروب الحدود بين إسرائيل وأعدائها العرب بعد إنشاء الكيان الغاصب. قتل العدو، كما يعترف موريس نفسه، آلافاً من المدنيّين العرب قبل انطلاقة الثورة الفلسطينيّة. وما كان يُسمّى «المتسلّلين» و«المُخرّبين» العرب آنذاك كانوا في جلّهم، وفق الدراسة المذكورة، من المدنيّين العزّل.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)