يعتقد باحثون من بريطانيا وألمانيا ودول أخرى أننا على عتبة دخول حقبة جديدة في مجال العلوم الفيزيائية. أما ما يدفعهم إلى هذا الاعتقاد فهو النتائج التي يحصلون عليها من جهاز الكشف GEO 600 الموجود في ألمانيا. فهل صحيح أننا نعيش داخل كون بشكل مجسّم ثنائي الأبعاد؟

روني عبد النور
عثر باحثون من جامعة كارديف، وهم جزء من فريق بريطاني ـــــ ألماني يتعقّب موجات الجاذبية في أعماق الفضاء، على أحد الاكتشافات الفيزيائية البارزة للغاية. فقد تمكّن جهاز الكشف GEO 600 من التقاط ضجيج يمكن أن يكون مرتبطاً بالاضطرابات الآتية من تجعّدات الزمكان الكمية المجهرية، كنتيجة مباشرة للمبدأ الهولوغرافي، الذي يعتبر الكون كناية عن بنية معلوماتية ثنائية الأبعاد مرسومة على الأفق، حيث إن الأبعاد الثلاثة التي نشاهدها لا تقوم لها قائمة إلا ضمن المستويات الطاقوية المنخفضة. شُرع في بناء جهاز الكشف GEO 600 عام 1995 في ألمانيا للبحث عن موجات الجاذبية، ويتميّز بأنه أكثر أجهزة الكشف حساسية ودقة. فقد صُمم لتحرّي التغيّرات النسبية في المسافات التي لا تتجاوز حجم الذرة نسبة إلى المسافة التي تفصل الشمس عن الأرض، ولاكتشاف الموجات التي تتراوح تردّداتها ما بين 50 و1500 هرتز. وكان الجهاز قد كسب سمعة عالمية ممتازة نتيجة لتقنيّته الابتكارية والموثوقة. يقوم الجهاز على تمديد الفضاء من جهة وضغطه من جهة أخرى، بطريقة تعاقبية، إذا وصلت إليه إحدى موجات الجاذبية. ومن أجل ذلك، يقوم الباحثون بإطلاق شعاع ليزر داخل مرآة خاصة، حيث ينقسم هذا الأخير إلى اثنين لينتقل الشعاعان بعدئذ داخل ذراعي الجهاز العموديين اللذين يبلغ طولهما 600 متر. بعد ذلك، ينعكس الشعاعان ويندمجان من جديد بغية خلق نموذج تداخل بين المناطق المضيئة والمظلمة، سواء لتلغي الموجات نفسها أو ليعزّز بعضها بعضاً. وتكمن أهمية هذه التجربة في إمكان اكتشاف إسقاط هولوغرافي يحدّد خصائص الزمكان.
يقول العالم في مركز Fermilab لفيزياء الجزيئات الفلكية في إلينوي كريغ هوغان إن GEO 600 عثر على النقطة التي يكفّ عندها الزمكان عن التصرّف على مثال السلسلة المتواصلة المرنة التي تحدّث عنها آينشتاين، ليتحلل إلى ذرات، تماماً كما تتحلل الصور الفوتوغرافية على شاشة الكمبيوتر إلى نقاط عند استخدام وظائف التزويم. ويضيف هوغان أنه إذا تطابقت معلومات الجهاز (الأمر الذي يبلغ درجة اليقين لديه لناحية سماعه صوت الجزيئات الكونية) مع ما يتوقّعه، فسيكون من شأن ذلك تفسير الضجيج الغامض الذي يلتقطه الجهاز والذي بقي بدون شرح إلى الآن. أما التفسير المباشر لذلك، فهو ليس سوى أننا جميعاً ننتمي إلى مجسّم كوني ضخم ثنائي الأبعاد.
من المعروف أن الكسر الأصغر الذي يقيس المسافة يطلق عليه العلماء اسم «طول بلانك» ويبلغ 1.6 x 10ـــــ35 متراً. وعند هذا الحد تتوقّف النظريات الفيزيائية عن تأدية وظائفها بسبب استحالة قياس هذه المسافة. وعليه، يقوم الخبراء المولجون إدارة GEO 600 باختبار نظرية هوغان لاعتقادهم أن مرايا الجهاز تهيم بسرعة كبيرة بعضها بالنسبة إلى بعض لتتكدس القياسات خلال مدة تسجيل، حتى تشكّل ما يوازي ما تنتجه موجة الجاذبية، الأمر الذي يستدعي التساؤل عمّا إذا كان بين المعلومات المجمّعة أثر ضجيج يمكن ربطه بتجزّع الزمان والمكان.
يُذكر أن الفريق سيقوم بتجارب جديدة في الشهور المقبلة للعثور على براهين جديدة تدعم فرضية هوغان. وإذا ما تم تأكيد هذه الفرضية يمكن أن يسهم ذلك في مسعى التوفيق بين مجالي فيزياء الكم ونظرية النسبية. ومن أجل تفحّص نظرية الضجيج الهولوغرافي، ستُزاد حساسية الجهاز باتجاه الترددات المرتفعة بحيث يكون تردّد الحساسية القصوى قادراً على سماع الأصوات الصادرة عن الانفجارات النجمية وعن اندماج الثقوب السوداء.
بالنسبة إلى هوغان، يغيّر هذا المبدأ مفهومنا للزمكان جذرياً، إذ لطالما اعتقد العلماء أن الأثر الكمّي سيؤدّي إلى التواء الزمكان على المستويات البالغة الصغر، بحيث يتحوّل هذا الأخير إلى وحدات صغيرة للغاية تشبه عناصر الصورة (pixels)، لكن تصغر حجم البروتون بمئة بليون بليون مرة. لكن، إذا ما ثبتت نظرية المجسّم، يمكن التفكير بالكون على أنه جسم كروي تغلّف قشرته الخارجية مربّعات بمقياس «طول بلانك» ويحتوي كلّ منها على وحدة من المعلومات، بحيث تصف المعلومات التي تغلّف القشرة الخارجية كلّاً من المادة والطاقة التي في داخل الجسم الكروي.
جدير بالذكر أنه حتى لو جرى التأكّد من بقاء الضجيج الغامض على حاله على مستوى التردّدات المرتفعة، فلن يكون ذلك برهاناً قاطعاً على فرضية هوغان، لكنه سيمثّل دافعاً قوياً للتعمّق في الدراسة، وسيجري تحسين حساسية الجهاز وتطوير نوعية المعلومات المحللة من خلال تقنية «الفراغ المضغوط» التي طُوّرت في ألمانيا لاكتشاف موجات الجاذبية للمرة الأولى. غير أن المفارقة ستكون في أنّ جهازاً صُمّم لاكتشاف مصادر موجات الجاذبية الواسعة ينتهي به الأمر، بطريقة غير مقصودة، إلى أن يكتشف التفاصيل الدقيقة للزمكان. وهنا بالتحديد، لا يشك العلماء للحظة في أن اكتشاف الضجيج الهولوغرافي من شأنه أن يمثّل إنجازاً يفوق سواه أهمية بأضعاف مضاعفة.