النموذج الإيراني بين ولاية الفقيه والقانون الوضعي والحكم الثيولوجي
معمر عطوي
ربما كان الكاتب توفيق السيف، موفّقاً أكثر في اختياره لعنوان كتابه «حدود الديموقراطية الدينية»، لو أنه أضاف عبارة «نموذج إيران». ذلك أن الحديث عن التجارب السياسية الثيولوجية، فضفاض بحجم ما تتّسع له من تجارب لكل منها خصوصيتها، واقترابها أو ابتعادها عن قيم الديموقراطية. وإذا ما اقتصرنا في بحثنا على معالجة الإسلام السياسي كتجربة دينية، لوجدنا أن التجربة الإيرانية فريدة من نوعها، لجهة توظيف صور الديموقراطية في المشهد السياسي بما يخدم «الفكرة الأسمى»، وهي الحفاظ على البعد الميتافيزيقي للحكم، وارتباط الحاكم بالمقدّس، كشرط إمكان ضروري لإسباغ المشروعية اللاهوتية على الأداء السياسي.
طبعاً، هناك العديد من التجارب الدينية التي تحاول إيجاد مساحة من التعايش بين حاكمية الله واختيار الشعب. وهناك من يحاول أن يجعل من مبدأ الشورى السائد في التراث الإسلامي، نمطاً شبيهاً بالديموقراطية. على ما يقول رئيس حركة النهضة الإسلامية في تونس الشيخ راشد الغنوشي «الديموقراطية... بضاعتنا رُدَّت إلينا».
لكن بأيّ حال، لا يمكن الحديث عن نظام إسلامي ديموقراطي أو نظام يدّعي أن السلطة للشعب، فيما يقف على رأس السلطة من يزعم أنه الحاكم بأمر الله وأنه الوصيّ على الملك، وأنه يحكم بما أنزل الله ولا مجال لمناقشاته «لأن القانون الإلهي أفضل من القانون الوضعي»، بما يساهم في دحض وتسخيف مقولات «حكم الشعب» و«اختيار الشعب».
لعلّ الميزة الأساسية التي أضاء عليها الكاتب بوضوح، كانت التحولات الجذرية التي شهدتها المؤسسة الدينية الشيعيّة على أيدي علماء خالفوا مفهوم «الحجّتيّة» الذي يشترط أن يكون الإمام «المعصوم»، وهو الإمام المهدي المنتظر، على رأس الدولة، والذي لا يجوز بنظر هؤلاء إقامة حكم إسلامي في غيبته.
يتوسّع الكاتب في فصله الأول، بالحديث عن «نظرية السلطة في المذهب الشيعي»، ليخلص إلى نتيجة مفادها أن الثورة الإيرانية قد توّجت نظريات عديدة في الحوزة الدينية، إضافة إلى تجارب سياسية متواضعة مثل تجربة الدولة الصفوية، وبعض الفتاوى التي كان لها تأثيرها في الواقع السياسي مثل فتوى الميرزا شيرازي بتحريم تداول التبغ واستعماله لمحاربة الشركة البريطانية التي كانت تحتكر تجارة التبغ. وذلك عام 1891 في إيران، حينها ظهر ما عُرف بثورة التنباك.
لذلك يقول الكاتب إنه «بناءً على اجتهاد الخميني، منح الدستور الفقيه الحاكم، جميع السلطات التي أقرّها علم الكلام والفقه الشيعي للإمام المعصوم، وأنهى بذلك النقاش حول العلاقة الشرطيّة بين العصمة ومشروعية الدولة».
ولطالما كان النموذج التقليدي يعتبر أن العدل الذي يُعدّ في التراث الديني، أساس الملك، أي الحكم، هو مفهوم مثالي لا يمكن إنجازه من دون تدخّل غيبي يتجسّد، بحسب قدامى المتكلمين، في إمام معصوم منصّب من قبل الله، بما يعني أن أي سلطة أخرى خارج إرادة «المعصوم»، ستكون عاجزة بالضرورة عن تحقيق العدل، وبالتالي فهي غير مشروعة.بيت القصيد هنا، أنّ الحكم الإيراني، بما يتضمنه من مؤسسات ذات طابع ديموقراطي، أرساها الإمام الخميني منذ أن أجرى استفتاءً شعبياً على الدستور الإسلامي، هو حكم يعود إلى بعده الغيبي رغم مروره في آليات عديدة. آليات ديموقراطية بكل معنى الكلمة، بيد أنها سرعان ما تصطدم بحدود الدين ومفهوم الولي الفقيه بما يمتلك من سلطات لا يمكن أن تعارضها أيّ من هذه المؤسسسات المنتخبة ديموقراطياً: مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان ومجمع تشخيص مصلحة النظام ومجلس خبراء القيادة الذي يمكنه عزل المرشد الأعلى ومحاسبته ضمن آليات يحددها الأصوليون أنفسهم في إطار الشريعة. من هنا، يعرض الكاتب بموضوعية وإسهاب آراء عديدة حول «خطورة» الصلاحيات التي يتمتع بها الوليّ الفقيه، لكن هنا من منظور ديني بحت يضيء على جانب مؤيدي انتظار المعصوم، إذ يعتبر هؤلاء أن «حدود الصلاحيات القابلة للنقل من الإمام إلى الفقيه، بقيت محل جدال يتركّز أساساً على قابلية الشخص غير المعصوم لاستعمال القوة القهرية التي قد تترتب عليها أضرار ماديّة أو جسديّة على الغير».
ينقل الكاتب عن الخميني في هذا الإطار قوله «إن سلطة الفقيه ينبغي أن تفهم في إطار الحكومة الإسلامية، ولا تصبح هذه السلطة فعلية إلا إذا حصلت على التأييد الشعبي» (ص77).
إزاء هذا المفهوم الذي يتحدث عنه الإمام الخميني، يرى الكاتب أن مؤسس الجمهورية الإسلامية نفسه، «أعاد سلطة الفقيه لتصبح ولاية مطلقة، كما عرّف قراره السياسي باعتباره حكماً ولائياً». ويشير إلى أن «فكرة الولاية المطلقة، تستهدف التشديد على الطبيعة الشاملة لسلطة الدولة، وخضوع جميع المواطنين لمقتضياتها» (ص 83).
لكن الكاتب هنا عاد ووقع في مغالطة الدفاع عن فكرة الخميني، حين ادعّى بأن «السلطات المطلقة للإمام لا يمكن أن تنتقل إلى الفقيه بالمعنى الشخصي، بل إلى مؤسسة الدولة التي هي جزء منها» (ص85). ويستدلّ الكاتب هنا بالبرلمان كـ«أبرز الإنجازات» التي تُحسب للنظام الإسلامي في إيران، ناسياً أو متناسياً دور مجلس صيانة الدستور (المؤلف من رجال دين وقانونيين على ولاء مطلق للمرشد الأعلى للثورة)، في تحديد شروط الترشيح للبرلمان، وحصره بأشخاص ملتزمين مبادئ الثورة ومدعومين من المؤسسة العسكرية المولجة بحفظ النظام (الحرس الثوري). بهذا المعنى، تصبح فكرة الديموقراطية في دولة دينية، فكرة منقوصة، حيث لا تزال السلطة تتدخّل من خلال شرطتها الدينية ومتطوعي «الباسيج» في قضايا تتعلق بالحرية الشخصية، مثل شكل ثياب المرأة والرجل وقصّات الشعر وما إلى ذلك من أمور تعدّ تافهة أمام ما يحتاج إليه الشعب الإيراني من ضرورات، مثل معالجة البطالة والتضخّم وصناعة البنزين (لا تزال إيران الدولة الرابعة في العالم من حيث إنتاج النفط تستورد 40 في المئة من حاجاتها من البنزين المكرر).
انطلاقاً من هذه النظرة الضيقة، التي يتبناها التيار الأصولي (المحافظ) فإن السلطة السياسية ليست من شؤون عامة الناس، وإن رضى العامة ليس مصدراً للشرعية السياسية. و«تعتبر سلطة الفقيه مطلقة ولا يمكن تحديدها بحدود القانون أو الدستور» (ص189). بما يعني بوضوح دحضاً لكلام الخميني حول أهمية التأييد الشعبي.
زبدة القول، إنّ الديموقراطية لا يمكن أن تجتمع مع سلطة غيبية تتحدث عن «إمام معصوم» وعن عدالة مطلقة في ظلّه، فيما يستغل الفقيه الذي ينوب عن «المعصوم»، سلطاته المطلقة ليتصرف على غرار الحاكمين بأمر الله أو ظل الله على الأرض، فيكتسب كل معاني العصمة حتى لو لم يكن ذلك معلناً.
وفي هذه العلاقة الجدلية بين الحاكم والوحي، تكمن خطورة «تقديس» الدستور والشخص على حساب العقل وإرادة الجمهور.
* من أسرة الأخبار


العنوان الأصلي
حدود الديموقراطية الدينية

الكاتب
توفيق السيف

الناشر
دار الساقي