غسّان سعود
خفّ سمع أوغست باخوس، وباتت حركته ثقيلة نتيجة التقدّم في السن. لكن السياسي العتيق لا يتأخر أبداً عن مكتبه في بناية باخوس في الشارع الذي يحمل اسمه. يصل في الموعد نفسه منذ أربعة عقود. الرجل الذي نجح في حجز مكان لعائلته في الذاكرة السياسية اللبنانية يواظب على الواجبات الاجتماعية، فيستقبل الناس ويجري على الأقل 3 زيارات يومياً، رغم أنه أعلن عدم نيته خوض الانتخابات.
يروي باخوس أن والده كان من أوائل طلاب الطب في فرنسا، وضمّه العثمانيون إلى الجيش التركي، بعد عودته من فرنسا ليجمع أثناء الحرب العالمية الأولى خبرة كبيرة جعلته الطبيب الأول في قضاء المتن. لكن مع الأسف، يقول، لم يعرفه أبناؤه جيّداً، إذ توفي قبل أن يبلغ أوغست التاسعة من عمره، ضمن عائلة تتألف من الوالدة لبيبة وسبعة أولاد.
في كلامه عن طفولته، يتوقف باخوس عند شخصيّة والدته بصلابتها وقوّة إيمانها ودفء محبتها. مآسي طفولته كانت مصدر خبرة إنسانية واجتماعية، وكان يدرس مع إخوته في مدرسة «الفرير» في الجميزة، قبل وفاة والده وانتقالهم إلى مدرسة الحكمة في الأشرفية.
لكنّ باخوس يمتلك بعض الذكريات الجميلة، منها شراؤه دراجة هوائية عند بلوغه الثانية عشرة. كان يذهب إلى المدرسة صباحاً، ثم يتجه إلى حقول ساحل المتن للعمل مع الفلاحين في توضيب الحمضيات وتعبئة الصناديق الخشبية لبيعها في بيروت.
بعد المدرسة، التحق باخوس بـ «جامعة القديس يوسف»، وحاز عام 1946، شهادة الحقوق، ثمّ تدرج محامياً في مكتب النقيب إدمون كسبار الذي كان يملك يومها، على ذمّة نائب المتن السابق، أكبر مكتب محاماة في الشرق الأوسط.
متاعب الحياة لم تمنعه من التقرّب من النائب والوزير السابق إميل لحود، وكان شخصية لها أثر على عدد كبير من شباب المتن. هكذا بدأ الشاب الصغير يواكب تحولات تلك المرحلة، منحازاً إلى الدستوريين ثم الشهابيين. وبين مكتب كسبار ومنزل لحود، تعمقت صداقاته بالقانوني ديمتري الحايك، والمحامي موريس الجميل، والمهندس إبراهيم عبد العال، والرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح. «أعجبت بأنطون سعادة بعدما تعرّفت إليه، ورفضت الطريقة التي أعدم بها رغم اختلافي معه في العقيدة»، لهذا وافق على أن يكون محامي الدفاع عن خمسة من القوميين. وبعد 8 سنوات من العمل في مكتب كسبار، قرر المحامي المتني الاستقلال، فوجد نفسه يأخذ مكتب الرئيس رشيد كرامي «الذي قبل إعطائي المكتب نتيجة صداقتنا المشتركة مع الأستاذ فؤاد رزق، والد النائب السابق إدمون رزق».
خاض الشاب فور بلوغه التاسعة والعشرين الانتخابات البلدية في بلدية جديدة ــ البوشرية ــ السد، وهي البلدية الثانية في لبنان من حيث الحجم، مستفيداً من إعجاب الناس بوالده ومن رضى لحود عليه. وبقي رئيساً للمجلس البلدي 13 سنة. وسرعان ما تكلّف بصفته محامياً، الوكالة الاستشارية لكل بلديات ساحل المتن. في تلك المرحلة، أسّس الحزب الديموقراطي العلماني مع جوزف مغيزل وباسم الجسر وإميل بيطار وقرابة 300 طبيب ومحام ومهندس. اعتنق الحزب «العلمنة والاشتراكية المعتدلة ورفض الطائفية والمذهبية»، متأثراً بالجو الدستوري ثم الشهابي، لكنّ رجال السياسة بدأوا بمحاربتهم حين شعروا بأن الحركة العلمانية تهددهم.
في عام 1968، ترشح باخوس منفرداً في وجه الحلف الثلاثي (حزب الكتائب، حزب الوطنيين الأحرار، الكتلة الوطنيّة)، مجيّراً نفوذه في البلديات لمعركته النيابية، فحاز منفرداً 5000 صوت. وبعد 4 سنوات، ترشح مع أمين الجميل ففاز لكنه رفض الانضمام إلى كتلة الكتائب، متمسكاً باستقلاليته.
ثمّ بادر «نواب 1972 الجدد» إلى انتخابه رئيساً لتجمعهم، وبعد 5 سنوات، عام 1978، شارك في تأسيس تجمع «نواب الموارنة المستقلين».
كانت الاجتماعات تُعقد في مكتب باخوس في البوشرية طوال 12 عاماً. وعشية انتخاب بشير الجميل رئيساً، أدّى باخوس دوراً مكّوكياً لتأمين حضور «إخواننا المسلمين»، كما يقول، ثمّ أعدّ مع جورج سعاده، ميشال ساسين، داني شمعون، جورج عدوان، مارون حلو، وجبران تويني «المشروع المسيحي للوفاق الوطني».
وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّه طوال مرحلة الحرب، فضّل الابتعاد عن كل ما يتّصل بالعمل العسكري، على الرغم من تعرضه لاستفزازات كثيرة ومضايقات من بينها نسف سيارته وسيارات إخوته.
طيلة حياته النيابية، كان باخوس يصرّ على القول إنه نائب عن كل لبنان، ويتذكر تصريحاً له إلى مجلة «مونداي مورننغ» يقول فيه إن «الذي يحرك هذا التباعد قلة لا تتعدى نسبتها الخمسة في المئة هنا وهناك، وربما تستفيد هذه القلة بسبب بقاء الفوضى». ومن خبراته النيابية البارزة، طلبه من الدولة اللبنانية شراء خمس طائرات «جمبو» لمصلحة شركة «طيران الشرق الأوسط»، لتعمل يومياً على تنظيم رحلات نقل كل من هو من أصل لبناني إلى بلاده مجاناً ذهاباً وإياباً، شرط بقائه في بلاده مدة لا تقل عن شهر. وكان من المطالبين بإعادة إنشاء وزارة تصميم تنسق بين الوزارات، وإلغاء «مجلس الإنماء والإعمار». وحين قرر رئيس مجلس النواب نبيه بري إنشاء هيئة استشارية لدى المجلس مؤلفة من عشرة أشخاص من كبار رجال القانون من قضاة وغيرهم مطلقاً عليها «هيئة تحديث القوانين»، بادر إلى تعيين باخوس رئيساً لها من دون استشارة أحد.
بعد حياة سياسيّة طويلة، يواجه باخوس بعض الانتقادات، لكن الناس يتحدثون بحنين عن نائب كان يخوض معارك ضد رفع سعر بطاقة الدخول إلى المسابح، وارتفاع الفائدة في القطاع المصرفي... عن نائب كان يتحرك بنفسه لمراقبة السير وطريقة تزفيت الطرقات، ويلاحق من يرمون الأوساخ في الأماكن العامة.
ماذا سيورث باخوس أحفاده؟ «أورثهم الاسم، وتراثاً من العمل الوطني سنحافظ عليه». أما عن زوجته، فيكتفي بالقول إنها «أسيرة كرسي نقّال منذ بضع سنوات، وصحتها لا تسمح لها بالخروج والرحلات». وبكثير من الجديّة يقول إنه غير نادم أبداً على زواجه. مؤكداً أنه لو ندم لكان سيطلّق «شو اللي بيطلّق أحسن منا». يجزم أن السياسة لم تبعده عن عائلته، ويتذكر بشغف صيف 1974، حين نظّم رحلة مع أولاده شهراً كاملاً في البحر، يزورون كل موانئ البحر المتوسط، وغالباً ما تجتمع العائلة كلها يوم الأحد في منزله.
وعن الهوايات، يقول باخوس إن حياته السياسيّة والمهنيّة كانت مزدحمة بطريقة لم تترك له وقتاً للهو... يتذكّر أنّه خلال طفولته، كان يسير مسافات طويلة لمشاهدة «شحرورة الوادي» و«زغلول الدامور»، قبل أن يصبح محامياً فيجمع الزغلول مع الشاعرين الزجليّين خليل روكز وموسى زغيب في مكتبه.
ختاماً، يقول الرجل ذو الستة والثمانين عاماً إن ضميره مرتاح، ولا ينام دون مراجعة أعمال النهار والاتصال بمن أساء إليهم ليعتذر، ثم يستدرك قائلاً: «ربما جمهوركم «شيعي»، وكان يفترض أن أتحدث عن علاقتي الوطيدة بالسيّد موسى الصدر وتأثري بالإمام علي»، مشيراً بإصبعه إلى آية معلقة على أحد الجدران قبالة صورة لشيخ درزي، يقول باخوس، «إنه يحمي ظهره به».


5 تواريخ

1923
الولادة في البوشرية، قضاء المتن (لبنان)

1952
انتخب رئيساً لمجلس بلدية الجديدة ــــ البوشرية ــــ السد

1953
فتح مكتبه الخاص للمحاماة، انطلاقاً من مكتب الرئيس الراحل رشيد كرامي

1972
انتخب نائباً للمرّة الأولى، وعاد إلى البرلمان في الدورات اللاحقة... ثم خسر مقعده عام 2000

2009
يراقب عن بعد التحضير للانتخابات النيابيّة: «أشاهد مغطساً لن أغطس فيه»